رغم كل ادعاءات الرغبة فى إنجاح الحوار الوطنى الذى يدعو إليه الدكتور مرسى وتمارس جماعته وحزبه الضغوط على القوى السياسية من أجل إقناعها بالمشاركة فيه، ورغم اشتداد الاحتقان الوطنى وانتشار دعوات العصيان المدنى الذى بدأه شعب بورسعيد البطل والرفض المجتمعى العام لمجمل سياسات حكم الإخوان، فقد أصدر رئيس الجمهورية قراراً بدعوة الناخبين لانتخابات مجلس النواب (الشعب سابقاً) متجاهلاً دعوات الثوار والقوى الوطنية بتأجيل الانتخابات حتى يتحقق التوافق الوطنى وتزول أسباب الانقسام والاحتقان! ولعل الرئيس يتصور أن بإمكانه تكرار المشهد السياسى فى مارس 2011 حيث بذل الإخوان المسلمون جهودهم الدعائية وقدراتهم التنظيمية وحشدهم لمختلف تيارات الإسلام السياسى لكسب موقعة إجراء الانتخابات التشريعية أولاً على خلاف آراء أغلب الأحزاب والقوى السياسية التى كانت ترى أفضلية وضع دستور جديد يحقق أهداف الثورة والقيم التى قامت عليها. لقد جاهد الإخوان المسلمون وحلفاؤهم والمشايعون لفكرهم فى تأييد إجراء استفتاء شعبى لتعديلات على مجموعة قليلة من مواد دستور 1971 الذى كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد قرر تعطيله بموجب الإعلان الدستورى فى 13 فبراير 2011، وروجوا بين العامة أن التصويت بنعم على التعديلات الدستورية هو انتصار للإسلام وجواز المرور إلى الجنة، بينما من يرفضون تلك التعديلات هم الجماعات الموصومة بالكفر ومحاربة الإسلام من الليبراليين والعلمانيين. وقد وصف أحدهم موقعة الاستفتاء ب«غزوة الصناديق» حيث وافق على التعديلات الدستورية ما يقرب من 77.2٪ ورفضه 22.8%. ولكن الرئيس لا يدرك أن المشهد السياسى مختلف الآن كل الاختلاف عنه فى 2011، وأن المزاج السياسى للمصريين قد أصابه تغيير جذرى بعد تجربتهم لممارسات حكم الإخوان على مدى أكثر قليلاً من عام ما بين ستة أشهر أمضاها حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لجماعة الإخوان) فى قيادة السلطة التشريعية متحالفاً فى ذلك مع حزب «النور» -حليفه الذى كان- حتى صدور حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية مواد فى قانون الانتخابات الذى جرت وفقاً له انتخابات مجلس الشعب وصدور قرار المشير طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل المجلس فى 14 يونيو 2012، ثم معاناتهم خلال الأشهر السبعة منذ تسلم الدكتور محمد مرسى سلطة رئيس الجمهورية من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 30 من يونيو الماضى. لا يدرك رئيس الجمهورية -أو لعله يتجاهل- حجم الاحتقان الشعبى الذى وصل إلى نقطة الغليان. فعلى مدى أسابيع قليلة -منذ السادس والعشرين من يناير 2013- استشهد ما يقرب من مائة مواطن فى مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وشهدت القاهرة والإسكندرية وطنطا والمحلة الكبرى وبقية مدن الجمهورية أحداثاً مؤلمة راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى الذين هبوا وانتفضوا للدفاع عن ثورتهم التى أجهضت ولم تحقق أهدافها، بينما المنتفعون بالثورة يتمتعون بالسلطة وأبهة الحكم! ويتجاهل رئيس الجمهورية رفض أهالى مدن القناة البواسل قراره بفرض حظر التجول وإعلانه حالة الطوارئ واستمرارهم فى ممارسة حياتهم وكأن قرارات الرئيس غير موجودة، بل تطور الأمر فى بورسعيد إلى حد إعلان «العصيان المدنى» وسيتبعها بقية مدن القناة وكثير من مدن المحروسة الذى فاض الكيل بمواطنيها ويستفزهم التجاهل الرئاسى لغضبتهم من أجل «استمرار الثورة» والدولة المدنية والدفاع عن حلمهم بالديمقراطية! لا يدرك رئيس الجمهورية -أو لعله يتجاهل- مدى الغضب الشعبى على سلسلة القرارات التى اتخذها ورجع فيها مضطراً أو ظاهرياً. فقد أصدر الدكتور مرسى أول قراراته بعد أيام قليلة من توليه منصبه الرئاسى بدعوة مجلس الشعب المنحل للاجتماع متحدياً بذلك حكم المحكمة الدستورية العليا ثم اضطر إلى سحب ذلك القرار بعد قرار المحكمة بوقفه. ثم كانت المحاولة الأولى لإقالة النائب العام السابق د.عبدالمجيد محمود وفشل الرئيس فى تمرير قراره بتعيينه سفيراً لمصر فى الفاتيكان إثر غضبة القضاة لعدوان الرئيس على استقلال القضاء. ثم اشتعلت مصر غضباً من إصدار رئيس الجمهورية إعلانه المسمى بالدستورى فى 21 نوفمبر 2012 الذى اضطر إلى إلغائه ظاهرياً وبقيت آثاره نافذة حتى الآن. لا يدرك رئيس الجمهورية -أو لعله يتجاهل- تصاعد الغضب الشعبى والاحتقان السياسى نتيجة عدم وفائه بوعوده التى قطعها على نفسه فى برنامجه الرئاسى الذى لم يحاول هو ولا حكومته تفعيله، والوعود التى حصل بمقتضاها على تأييد «الجبهة الوطنية لحماية الثورة» فى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية ضد الفريق أحمد شفيق والتى أثار القوى المدنية بعد فوزه بالمنصب بتجاهله التام لتلك الوعود! وفشل الرئاسة فى تحقيق إنجاز له معنى يتقبله الناس فى التعامل مع المشكلات التى حدد الرئيس بنفسه حلها خلال المائة يوم الأولى من فترته الرئاسية، فالناس يشهدون ويعيشون مآسى يومية فى سد احتياجاتهم من الخبز والوقود، ويعانون الأمرين من فوضى المرور والانفلات الأمنى، بينما أصبحت تلال القمامة وانعدام النظافة العامة وسوء حالة الطرق وحوادث القطارات وتردى الخدمات الصحية والعلاجية من السمات الأساسية لمصر فى فترة حكم الإخوان! لا يدرك رئيس الجمهورية -أو لعله يتجاهل- حجم الغضب الشعبى والاحتقان السياسى من فشل الحكومة التى اختار الرئيس رئيسها وتمسكه باستمراره رغم المطالب المستمرة والمتصاعدة بإقالته من جانب كل القوى السياسية والشعبية، حتى حزب «النور» الذى كان متحالفاً مع النظام الحالى تقدم بمبادرة لاحتواء الأزمة السياسية القائمة كانت إقالة رئيس الوزراء فى مقدمتها كذلك المطالبة بإقالة النائب العام غير الشرعى لصدور قرار تعيينه من رئيس الجمهورية بالمخالفة لما يقضى به قانون السلطة القضائية! نتمنى أن يدرك الرئيس أن المشهد السياسى الآن جد مختلف عما كان عليه فى 2011 وقت أن تمكن حزب الإخوان من الحصول على ما يقرب من 42% من مقاعد مجلس الشعب المنحل محققاً بذلك أكثرية مكنته من السيطرة على مناصب رؤساء اللجان بالمجلس، كما استطاع وشريكه حزب «النور» -الذى كان متحالفاً معه- من تحدى الإرادة الشعبية وتجاهل حكم القضاء الإدارى والمضى قدماً فى تشكيل غير عادل وغير متوازن للجمعية التأسيسية التى أخرجت دستوراً «مسخ» لم يقبله سوى 20% من المصريين الذين لهم حق التصويت فى الاستفتاء الذى جرى عليه من دون تحقق التوافق المجتمعى الذى تعهد رئيس الجمهورية بأنه لن يطرحه للاستفتاء إذا لم يتحقق! خرج من المشهد الحالى المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى كانت جماعة الإخوان المسلمين تؤلب عليه الجماهير وتنظم المليونيات احتجاجاً على قراراته وأقامت الدنيا رفضاً للإعلان الدستورى المكمل الذى أصدره المجلس وألغاه الدكتور مرسى ليصدر بدلاً عنه إعلان 21 نوفمبر الذى جمع فيه بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وحصن به قراراته السابقة واللاحقة وغل به يد القضاء عن التعامل مع أى طعون قد تطال تلك القرارات. أصبح رئيس الجمهورية وحزبه وجماعته المسئولين عن الحالة السيئة التى وصلت مصر إليها فى المجالات الاقتصادية والسياسية ناهيك عن الأزمات المتكررة فى توفير الاحتياجات الحيوية للناس. لم يعد هناك من يلام على تردى الأوضاع العامة سوى الرئاسة وجماعة الإخوان وحزبها. هم المسئولون عن تفشى موجات «الأخونة» فى جميع المجالات، وفشل قيادات الجماعة فى الرئاسة والحكومة والمحليات فى تحقيق أى إنجاز يطمئن الشعب إلى قرب انحسار الغمة. لقد بلغ عجز الدولة وانهيار هيبتها واهتزاز القانون مدى يهدد الوجود المصرى فى ذاته ووُصمت الدولة الحالية بأنها «دولة فاشلة»! والسبيل الوحيد إلى احتواء الموقف المتردى هو تغليب صالح الوطن وفتح أبواب المشاركة السياسية والمجتمعية لكل القوى الوطنية والبعد عن سياسات الإقصاء والاستبعاد لغير أعضاء الجماعة. إن رئيس الجمهورية مطالب بالاستجابة لمطالب الشعب والمعارضة الوطنية بتعديل الدستور المعيب، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة النظر فى كل القوانين التى أصدرها مجلس الشورى للتأكد من دستوريتها، والالتزام بملاحظات المحكمة الدستورية العليا على قانون انتخابات مجلس النواب مع تأجيل تلك الانتخابات وتحديد موعدها بعد تشكيل الحكومة الجديدة. فإن فعلها الرئيس فخيرا يفعل للمحافظة على تماسك الوطن واستقراره وبدء مسيرة جادة للتنمية الحقيقية والتحول الديمقراطى. وإن تغلبت مصلحة الجماعة واستمر تجاهل أسباب الغضب الشعبى، فلك الله يا مصر!