وقفت فزعة متجمدة بمكانى أراقبهم. كانوا متشابهين كأنهم نسخ مصبوبة فى قالب واحد؛ الوجه شاحب جامد التعبير والرأس بيضاوى صغير والجسم نحيل وعليه زى موحد بارد اللون. يتحركون آليا من تحت الأرض ومعهم ذلك المنشار الغريب، كأنهم دمى بداخلها أحجار بطارية، يغرسون المنشار من تحت الأرض ثم يلتفون معه مُحدثين قطعا دائريا لا يلبث أن يسقط، بمن وما عليه، قرصا عاجزا فى باطن الأرض حيث يتحلل فورا فى حمض الهلاك. أزيز المنشار متواصل وهم يتنقلون بسرعة مذهلة مستمرين فى قطع الأرض أقراصا عاجزة تتهاوى فى ومضة أمام عينى ليلتهمها حمض الهلاك مُحدثا صوت شفط حاد وحاسم. على عِرق رفيع من عروق الأرض المفتوحة أحاول أن أهرب إلى الجانب الآخر الذى ما زالت به الأرض مستقرّة وما إن أنقل خطوتى وأبدأ السير على العِرق فى حذر شديد حتى أرى بقعة الأرض، التى كنت أقف عليها وتركتها لتوّى، تنهار. أخشى أن أفقد توازنى وأقع فى إحدى الهوّتين على جانبى العِرق الرفيع، أرفع رأسى وأنظر أمامى حتى تثبت خطوتى وأنا أستعين بآيات من القرآن أقرأها فى تضرع إلى الله أن يساعدنى. أجتاز البقعة الحرجة وأنتقل إلى الأرض التى لا تزال متماسكة. ما إن أجد نفسى على أرضية صلبة حتى أهرع بالجرى إلى ميدان رئيسى وأنا أصيح وأدق الأبواب لأوقظ النائمين: «استيقظوا إنهم يقطعون الأرض هناك بمناشيرهم أقراصا تسقط فى حمض الهلاك فتحترق على الفور، أفيقوا إنهم يتقدمون بسرعة صوبكم!». تُفتح الأبواب تباعا وألحظ الارتباك على الجميع؛ يتوقفون عند أبوابهم وينظرون فى نعاس إلى بعضهم البعض متسائلين: «وماذا بوسعنا أن نفعل؟». يستولى علىّ الأسى فأقول فى نفسى: «ليس أمامى إذن سوى أن أطير»؛ أمد ذراعى إلى أعلى وأدق الأرض بقدمى حتى أرتفع تدريجيا وأنا أحس بجسمى أثيريا خفيفا يمكننى من اختراق الجدران فى مرونة ويسر. أنظر من ارتفاعى فأجد المخلوقات الآلية لا تزال فى حركتها الدائبة؛ تطل من الجوف، ومعها المناشير، تشق طريقها بلا هوادة فى قطع الأرض؛ دوائر تهبط أقراصا إلى هوّة حوض الهلاك الملتهب، بما عليها من عمائر وبيوت وحوانيت والناس بداخلها مُطمئنون إلى أنهم قد أغلقوا أبوابهم جيدا فأخلدوا خلفها إلى الهدوء متصورين أنهم بذلك قد وجدوا حلا نموذجيا لدرء الخطر. * إضافة: فى خضم التعاسة من غَلَبة الشر هناك دائما لحظات غبطة؛ بشرط الإيمان المطلق والتصديق بقوله تعالى فى سورة «النور» (آية 11): «... لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ».