حين يتوقف نهر الحياة عن التدفُّق يجف كل شىء؛ يذوى الجسد النحيل الذى طالما أُرهِق من كثرة ما أقام وارتحل، ترتخى عضلة القلب الذى تعب من طول ما قطع من سنين وأيام، تنطفئ العينان اللتان دوخهما البحث فى المراجع والكتب، تنكمش الكليتان، المنكمشتان أصلاً بفعل الفشل والمرض، يتشقق اللسان الذى لم يكن يكف عن الحديث والكلام مُعلماً وناصحاً ومُحذراً. ثم بعد ذلك يرقد الدكتور رشدى سعيد طاوياً برقدته صفحة مهمة من تاريخ مصر، وسيرة ذاتية امتدت لأكثر من تسعين سنة تشهد لصاحبها بما يرفع الذكر، ويخلّد الاسم وسط أولئك الذين عملوا لرفعة مصر، فوضعتهم مصر فى مكانتهم التى يستحقونها. من تراب مصر خرج الطفل وليداً عام 1920، وبين ربوعها شب وشاب، تعلّم فى مدارسها، وتخرّج فى جامعاتها، وحصل على أولى وظائفه معيداً فى قسم الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة، قبل أن يسافر فى بعثة علمية إلى أمريكا للحصول على الدكتوراه من جامعة هارفارد بتوصية من العالم المصرى الراحل مصطفى مشرفة. إلى مصر يعود الباحث الشاب مرة أخرى ليتخصص فى جيولوجية مصر، يُلقى بنفسه بين طبقات الجغرافيا والتاريخ ليستخرج منها أفضل ما فيها، يكتب ويحاضر عن المعادن المختبئة فى النفوس قبل الصخور، يقلِّب بمعوله الصغير فى طيات الضمير المصرى ليكتشف ما غاب تحت ركام القهر والجهل والمرض عبر آلاف السنين، يولى وجهه شطر النهر المتدفِّق من قلب الصحراء ليخلق لغة مشتركة تمكِّنه من أن يسمع أناته وشكاواه وحكاياته التى لا تنقطع، فينقلها بدوره إلى مَن يعتقد أن الأمر يهمه، ولا يكف عن تكرار ما سبق أن حذّر منه ونصح به، فنهاية الحكاية لم تُكتب بعد، ولعلها لا تُكتب أبداً طالما أن صوته لا يزال يتردد فى جنبات المكان، ومع غياب الجسد يظل الصوت حاضراً فى كل شىء؛ بداية من التاريخ والسيرة، مروراً بعشرات الكتب والمؤلفات، وليس انتهاءً بالمحاضرات والتصريحات. «كنت مدرساً فى الجامعة، وقت أن كان الملك فاروق يحكم مصر»، هكذا يعتز ابن محافظة أسيوط بكونه معاصراً لملكين وخمسة رؤساء، كما يعتز بكونه نائباً فى أول برلمان مصرى بعد ثورة يوليو، ذلك الذى جرى انتخابه عام 1964 قبل ست سنوات من رحيل عبدالناصر، مع عدم إغفال دخوله السجن فى عام 1981 ضمن حملة اعتقالات شنّها الرئيس السادات، فيما اصطلح على تسميته ب«تحفُّظ سبتمبر» قبل أيام قليلة من رحيل السادات نفسه عن الدنيا، الأمر الذى اضطره لأن يسافر بعد الإفراج عنه إلى أمريكا، حيث بنى بيتاً وحصل على عمل، ثم عاد إلى مصر فى عهد مبارك، ورحل عن الدنيا فى عهد مرسى.