تغادر الروح الجسد فتتركه بلا حراك، مجرد هيكل مسند إلى كرسى البابوية، ملفوف فى الزى الكهنوتى، يعلوه التاج البابوى، وبين يديه عصا الرعاية. العينان مغلقتان لا تريان تلك الجموع التى احتشدت لتلقى نظرة الوداع الأخير، والفم مطبق على تاريخ طويل لصاحب الجسد، والأذن لا تصلها تلك الآهات الحارقة المنبعثة من حلوق الآلاف حزناً على رحيل البابا السابع عشر بعد المائة للكنيسة المصرية، فى وقت كانوا فيه فى أشد الحاجة إليه، فإذا به يغادرهم تاركاً خلفه أسئلة كثيرة لا يملك أحد الإجابة عنها. رحل البابا شنودة الثالث مخلفاً وراءه سيرة حافلة بالأحداث الجسام، بدأت منذ السنة التى قرر فيها الانخراط فى سلك الرهبنة، بعد أن أمضى شبابه مواطناً عادياً، يدرس التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، ويكتب الشعر ويقرأه، ويحترف الصحافة ويمارسها، ويوقّع تحت كل ذلك باسمه الذى عُرف به «نظير جيد روفائيل». سلك نظير طريق الرهبنة فى بداية الخمسينات، وتم رسمه راهباً باسم أنطونيوس السريانى، قبل أن يتم تعيينه أسقفاً للتربية فى الكنيسة لتدخل كل كليات اللاهوت وكذلك مدارس الأحد فى اختصاصه، الأمر الذى مكّنه من الاحتكاك برعايا الكنيسة الذين تعلقوا به للدرجة التى جعلتهم يضغطون على البابا كيرلس من أجل إعادته بعد أن قام الأخير بنفيه إلى وادى النطرون اعتراضاً على النبرة السياسية لدروسه الدينية داخل الكنيسة، وهو ما كان يرفضه البابا العجوز وقتها. على أن النبرة السياسية التى غلفت دروس الراهب، وجرّت عليه المشاكل فى بدايته، هى نفسها التى أهّلته للدخول فى صدام مباشر مع السادات، خاصة بعد أن تم اختياره للجلوس على كرسى البابوية خلفاً للبابا كيرلس الذى توفى فى عام 1971، الأمر الذى دفع السادات لأن يتحفظ عليه فى دير وادى النطرون فى سبتمبر 1981، قبل أن يعلن فى خطاب شهير إلغاء قرار رئيس الجمهورية بتعيينه، وتشكيل لجنة من خمسة من الأساقفة للقيام بالمهام البابوية، هذا بالطبع بعد أن اتهمه علانية بأنه «عايز يبقى زعيم سياسى». لم يتخلَّ البابا عن نبرته السياسية التى صاحبته على مدار تاريخه الطويل، حتى بعد اغتيال السادات وتولى مبارك مقاليد الحكم، راح البابا يدير ملفات المسيحيين فى الداخل والخارج بحنكة شديدة بحكم سلطته الروحية التى بسطها على جموع المسيحيين، غير أن تلك السلطة شهدت اهتزازاً بعض الشىء، خاصة عندما تحفظ البابا على مشاركة المسيحيين فى ثورة يناير، وإعلانه تأييد مبارك أكثر من مرة، ثم استقباله لقادة المجلس العسكرى داخل الكنيسة الأرثوذكسية بعد حادث ماسبيرو الذى راح ضحيته ما يقرب من 26 شاباً دهساً تحت مدرعات الجيش. إلا أن كل ذلك لم يُفقده مكانته الروحية فى قلوب ملايين المسيحيين الذين شاركوا فى تشييع جثمانه عقب رحيله فى مارس الماضى.