يملك الصعيد أسطورته الخاصة التى يتلوها على نفسه وعلى الآخرين، أبناؤه فقط هم الذين يملكون مفاتيحها، آياتها قد تكون حكاية تراثية أو قصيدة يقرأها شاعر ترك الصعيد وجاء كى يغزو المدينة التى لا تقهر.. وظل الوقت بينهما سجال هو يطأها بشعره وهى تأكل سنواته الضئيلة.. ثم يمضى تاركا بصمة شعرية واضحة على شوارعها.. والمدينة القاسية تاركة بصمتها الكبيرة على روحه واغترابه. ومن الذين كتبوا أسطورة المكان وأسطورة الغربة وأسطورتهم الذاتية عمر نجم.. "ولأنك/ مش ح تكون الآخر/ ولا تملك/ غير قلب بينبض بالعشق/ وعاشق/ بتسابق/ أيامك.. عمرك.. وسنينك/ تجاعيد الزمن المنقوشة/ بدرى على جبينك. وقد يكون الموت على المستوى المادى نهاية لتجربة معينة، لأنه يحصرنا فى عدد محدد وإطار زمنى واضح من حيث الإنتاج الكمى، لكن من حيث الكيف والدلالة ربما كان الموت بداية جديدة لقراءة ثانية.. وربما لقراءات غير منتهية.. وكم من شاعر تمت قراءته بعد رحيله وبعد اكتمال دلالته الكتابية أو لنقل وهم اكتمال دلالته الفنية.. فبرحيل المبدع يأخذ مكانه فى حلقة الكتابة بالاستمرار والبقاء أو بالنزواء والاختفاء. وعمر نجم شاعر صعيدى ولد فى سوهاج 1956.. وعاش تجربة فنية خاصة به خلفت أربعة دواوين شعرية هى "وف حواريكى الحقيقة، سعيد يعنى happy، غياب الحضور.. حضور الغياب، تغريبة عمر نجم" .. ورحل فى 1995.. وتمت طباعة أعماله الكاملة فى الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012. وكانت رحلته العملية دائرية تحمل بشكل أو بآخر فكرة وجودية عن البحث والعودة إلى نفس البداية ربما كانت تشبه فكرة سيزيف، حيث كانت بدايته العملية صحفيا فى"صباح الخير" ثم انتقل ل"القاهرة" ثم "مجلة المسرح" ثم "عكاظ" فى المملكة العربية السعودية ثم عاد مرة أخرى إلى "صباح الخير" قبل وفاته بشهور قليلة.. هذه الفكرة الدائرية أصابت أيضا أعماله الشعرية، فقد توفى عمر نجم وديوانه الثالث "غياب الحضور.. حضور الغياب" يستعد للخروج إلى النور.. وجاء ديوانه الرابع "تغريبة عمر نجم" والذى صدر بعد وفاته ويحتوى على القصائد التى كتبها الشاعر فى غربته بالسعودية وعن غربته فى مصر، ونلحظ ضعف بعض القصائد فى الديوان الأخير بما يعنى أن الجامع وضع فى الديوان كل القصائد التى تركها عمر نجم والتى ربما كان قد كتبها فى بدايات حياته الشعرية.. كأنما أراد أن تكون حياته الشعرية أيضا دائرية.. حيث نجد قصائد الفصحى المقحمة على التجربة الشعرية "العامية" الخالصة للشاعر.. من حق عمر نجم أن يكتب شعره كيفما يشاء بالعامية أو بالفصحى.. ولكن كان على جامع الديوان الذى لم يجد فى الدواوين الثلاثة السابقة قصيدة فصحى يدرك أن عمر نجم لم يكن موافقا على هذه التجربة.. بالتأكيد فعل ذلك حبا فى الشاعر.. لكن الحب وحده لا يكفى.. ولكم أن تلحظوا الفرق بين المستوى الفنى للقصائد. والتاريخ الثقافى للصعيد يحتاج إلى كتابات كثيرة ومتنوعة بحيث يمكننا إنتاج تاريخ مواز لتاريخ وجغرافية الصعيد بعيدا عن الذى نراه على شاشات التلفزيون من تلفيق وادعاء، وفى قصيدة "سعيد يعنى happy" يقول عمر نجم: أنا مش نبى/ لكنى باسعى عشان أكون/ يادوب بشر/ من يوم ما ع الدنيا وعيت/ وأنا مش سعيد/ وكان مدرس الانجليزى فى الصعيد/ راجل كشر/ وكان يقول: ياعيال سعيد يعنى happy / فنقول وراه/ الكلمة تخرج من حلوقنا ع الشفاه/ ولا عمرها دخلت قلوب".. الأمر أكبر من أن يكون رصدا لظاهرة ما حدثت فى عملية تعليمية.. فالحكاية حكاية منهج وطريقة حياة تتعلق بالسعادة وعلاقتها المتنافرة مع الفقر وبالطبيعة القاسية للصعيد وانعكاسها على أرواح أبنائه الباحثين عن الضرورى من الأمر "أن يكونوا بشرا عاديين لا أنبياء ولا غيره".. لم يكن عمر نجم سعيدا.. وظل كذلك.. ربما كتب الشعر بحثا عن السعادة.. أو توغلا فى الوجع.. فالأمر سيان. وتنوعت مصادر الشجن بعد ذلك، وتجاوز الأمر المتعلق بالسعادة طور الطفولة فشغل الشاعر نفسه – كمعظم أبناء جيله – وشغل شعره بالقضايا الكبرى التى طرحتها الساحة السياسية والثقافية فى الثمانينيات والتسعينيات (إسرائيل وفلسطين والتخاذل العربى، ودور مصر والإنسان العربى فى كل هذا) هذه القضايا الكبرى وهذا الالتزام طرح جماليات خاصة بالقصيدةعموما وبالفن وبالقصيدة العامية بشكل خاص، منها ما يتعلق بالغنائية والحنين واستدعاء التراث وغير ذلك. ويظل عمر نجم حاضرا بشعره وكتاباته فى القصيدة العامية التى يجسد بها وجع الغلابة، وفى الأغنية التى يهون بها غربته وغربة الإنسان.