تُظهر الحوادث الإجرامية الصادرة عن مراهقين في السنوات الأخيرة تحوّلًا مقلقًا في البنية الوجدانية والقيمية للأجيال الجديدة، إذ لم يعد العنف حدثًا طارئًا بل مظهرًا من مظاهر التعبير عن الذات المشوشة، في ظل بيئة رقمية تُضخّم مشاهد القوة، وتُضعف حسّ المسؤولية والضمير الجمعي. من منظور نفسي، نحن أمام مراهق يعيش صراع الهوية في عصر الصورة، حيث تتبدل معايير البطولة والشجاعة داخل فضاء رقمي يجعل القتل مشهدًا جماليًا، ويجعل الضحية مجرد "عنصر لعبة". هذا التبلّد الوجداني ليس ناتجًا عن انحراف فردي، بل عن منظومة تربوية وثقافية فقدت قدرتها على احتضان المراهق عاطفيًا وفكريًا، وتركت خياله يتشكل داخل عوالم افتراضية بلا ضوابط ولا وعي نقدي. شهدت مدينة الإسماعيلية مؤخرًا حادثة مروّعة حين أقدم تلميذ على قتل زميله وتقطيعه إلى أشلاء بمنشار كهربائي. لم تكن الجريمة مجرد مشهد مأساوي عابر، بل جرس إنذار خطير يعكس تصاعد أنماط غير مسبوقة من العنف بين المراهقين. اللافت أن الطفل القاتل اعترف بأنه استوحى طريقة التنفيذ من أحد الأفلام الأجنبية ومن ألعاب إلكترونية تعتمد على القتل والعنف، وكأنه أعاد مشهدًا سينمائيًا إلى الحياة دون أن يشعر بوقعه الإنساني. إنها جريمة تكشف فراغًا نفسيًا وتربويًا عميقًا في جيل يعيش أكثر داخل الشاشات مما يعيش في الواقع. تشير دراسات علم النفس التربوي إلى أن التعرض المستمر لمشاهد العنف في وسائل الإعلام يُحدث ما يسمى ب "التبلد الانفعالي" (Desensitization)، أي أن الدماغ يفقد تدريجيًا قدرته الطبيعية على الاشمئزاز أو الخوف من الدم والعنف، فيتراجع التعاطف الإنساني وتضعف الضوابط الأخلاقية. ففي دراسة لجامعة ميتشجان (Anderson & Bushman، 2015) تبين أن المراهقين الذين يقضون أكثر من ساعتين يوميًا في ألعاب العنف ترتفع لديهم احتمالية السلوك العدواني بنسبة 60%، نتيجة التكرار المستمر لمشاهد القتل التي تُحدث انخفاضًا في الاستجابة الانفعالية الطبيعية تجاه الألم والعنف. كما أكدت دراسة منشورة في مجلة Pediatrics (الجمعية الأمريكية لطب الأطفال، 2017) أن العنف الإعلامي يخفض قدرة المراهق على التعاطف ويزيد من الميل للسلوك العدواني، ما يعني أن العنف الرقمي لا يُبقي أثره داخل اللعبة فقط، بل يعيد برمجة الانفعالات الإنسانية تدريجيًا. أظهرت دراسة لجامعة أكسفورد (2019) أن المراهقين الذين يندمجون بشدة في الألعاب العنيفة يفقدون مؤقتًا التمييز بين الخيال والواقع، فيتعاملون مع القتل أو الانتقام كأنه فعل بطولي يمنحهم القوة والانتصار. وهنا تكمن الخطورة في أن مرحلة المراهقة، وهي مرحلة البحث عن الهوية، تصبح أرضًا خصبة لتقليد النماذج التي تمجّد القوة والعنف. ومع ضعف الرقابة الأسرية وغياب التوجيه العاطفي، يجد المراهق نفسه يتماهى مع ما يشاهده في الألعاب والأفلام، كما حدث في جريمة "كولومباين" الأمريكية عام 1999 التي استلهم منفذوها تفاصيلها من ألعاب إلكترونية عنيفة. هذا النمط من الجرائم يُعرف في علم النفس باسم "Copycat Crime"، أي الجريمة المقلّدة، حيث يتقمص الجاني ما شاهده باعتباره وسيلة لإثبات الذات أو التخلص من الإحباط. من منظور علم الأعصاب، أظهرت دراسات تصوير الدماغ الوظيفي أن التعرض المفرط لمشاهد العنف يُنشّط اللوزة الدماغية (Amygdala) المسؤولة عن الانفعالات العدوانية، ويُضعف في المقابل نشاط الفص الجبهي (Prefrontal Cortex) المسؤول عن التفكير الأخلاقي وضبط السلوك. ففي دراسة منشورة في مجلة Social Cognitive and Affective Neuroscience (أكسفورد، 2015)، لوحظ أن المشاهد العنيفة المتكررة تُقلّل من نشاط مناطق الضبط الأخلاقي في الدماغ، ما يجعل المراهق أكثر اندفاعًا وأقل قدرة على التقييم العقلي لأفعاله. هذه التغيرات العصبية تفسّر البرود العاطفي الذي أظهره المراهق في جريمة الإسماعيلية؛ إذ لم يتعامل مع القتل كفعل إنساني فظيع، بل كمشهد رقمي يؤديه ببرود وانفصال وجداني. يُقدّم نموذج العدوان العام (General Aggression Model – GAM) تفسيرًا علميًا لهذه الظاهرة، إذ يرى أن التعرض المتكرر للمحتوى العنيف يكوّن لدى الفرد شبكة معرفية وعدوانية تشمل أفكارًا وصورًا ذهنية واستجابات انفعالية تجعله أكثر ميلًا لاستخدام العنف في مواقف الحياة الواقعية. ووفقًا لدراسة حديثة من جامعة شنغهاي (2024)، فإن الألعاب العنيفة تُعزّز ما يسمى ب "التفكك الأخلاقي" (Moral Disengagement)، حيث يبدأ المراهق في تبرير العنف كوسيلة مقبولة لتحقيق السيطرة أو الشعور بالقوة. إن المأساة الحقيقية في جريمة الإسماعيلية ليست في تفاصيل القتل بقدر ما هي في برود المراهق أثناء التنفيذ، وكأنه يعيش داخل لعبة رقمية. لقد تلاشت الحدود بين العالم الافتراضي والواقع، وتحول الخيال الدموي إلى سلوك واقعي، ما يدل على خلل خطير في الوعي الوجداني والتربوي، نتيجة غياب الحوار الأسري وانعدام البدائل الآمنة لتفريغ الغضب والانفعالات. إن الرقابة الرقمية اليوم ليست ترفًا بل ضرورة تربوية عاجلة. على الأهل أن يراقبوا نوعية المحتوى الذي يتعرض له أبناؤهم، ويضعوا حدودًا زمنية واضحة لاستخدام الشاشات، والأهم أن يشاركوا أبناءهم في مناقشة ما يشاهدونه حتى يُصبح الوعي النقدي جزءًا من حياتهم اليومية. كما يجب تدريب المراهقين على التعبير عن الغضب والانفعالات بطرق صحية وآمنة، مثل الرياضة والفن والموسيقى، بدلًا من الكبت والانفجار. ينبغي للأسرة أيضًا أن تلاحظ المؤشرات المبكرة للخطورة، مثل العزلة، فقدان التعاطف، الشغف بالعنف، أو التلذذ بمشاهد الدم، فهذه ليست "مرحلة مراهقة عادية"، بل إنذارات تستدعي تدخلًا نفسيًا عاجلًا. إن حادثة الإسماعيلية يجب أن تكون نقطة تحول، لا مجرد قصة عابرة، فالمجتمع الذي يترك أبناءه يتربّون على مشاهد القتل دون بديل إنساني أو وعي تربوي، سيجد يومًا أن العنف لم يعد على الشاشة فقط، بل خرج منها إلى الواقع.