فى فيلمه الأخير مستلهما سينما الغرب الأمريكى «الويسترن» ونسختها الإيطالية المعروفة باسم «الويسترن الإسباجيتى» ومستخدماً طريقة بناء ومفردات النوع: الشريف والماريشال والخيول والبنادق والمسدسات والبار الشهير والسادة والعبيد والمال والنساء، ينسج «كُوَنْتين تارانتينو» فى فيلمه الأخير «Django unchained» «چانجو طليقاً»، دراما قوية ودموية على طريقة الإيطالى الكبير سرجيو ليونى، بلمحات ساخرة أقرب إلى أسلوب ميل بروكس، تدور أحداثها فى منطقة الغرب الأمريكى من تكساس إلى المسيسيبى عام 1858 قبل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية بعامين، ويطرح من خلالها رؤيته التى تدين كل من شارك فى تكريس العبودية وانتهاك حقوق الإنسان من سلطة وتجار ونخَّاسين وقانون أتاح للأبيض السيادة والتفوق وامتلاك الملونين، ولم يستثن فى إدانته المواطنين السود أنفسهم سواء بخنوعهم واستسلامهم أو بتواطؤ بعضهم (العبد الوغد ستيڤن بأداء راقٍ لصمويل ل. چاكسون) مع أسيادهم البيض على جثث ذويهم. إذا كان سبارتاكوس هو الرجل الذى دفع حياته ثمناً لإيمانه بحق المستعبدين فى الحرية وقام بثورته ضد السادة الرومان عام 71 قبل الميلاد إلى أن هُزم ومن معه، فإن چانجو «چيمى فوكس»، فى محاولته الفردية هو سبارتاكوس الأفريقى / الأمريكى الذى توافرت له الظروف -أو نجح فى توفيرها- ليحرر نفسه وزوجته وبعض العبيد، مجيباً بشكل ما، على تساؤل ظل بلا إجابة لفترة طويلة: لماذا لم يُحرر العبيد أنفسهم بثورتهم على نظام العبودية؟ ولماذا انتظروا لينكولن ليلغى قانون التمييز العنصرى؟ بالتأكيد أن الإجابة لم تكن، كما رأى كالڤن كاندى «ليوناردو دى كابيريو» تاجر العبيد العنصرى الإقطاعى المتغطرس أنها مسألة جينية لدى الزنوج، حيث توجد فى مؤخرة رأس كل عبد ثلاث نقاط مرتبطة بالذل والخنوع، على حين أن مثيلاتها فى الجنس الأبيض هى مراكز الإبداع، وفيها إشارة ساخرة ممرورة من تلك النزعات العرقية، المخجلة، فى التاريخ الأمريكى. إن كنج شولتز «كريستوف فالتز»» طبيب الأسنان الألمانى الذى هجر مهنته ووطنه وراح يجنى المال عبر جثث الآخرين المطلوبين للعدالة، هو امتداد لأجداده أبناء القارة الأوروبية الذين استوطنوا القارة البكر فى منتصف القرن الخامس عشر وأبادوا أهلها ممن سمّوْهُم الهنود الحمر. شخصية چانجو هى مزج بين سبارتاكوس الذى فقد زوجته وراح يثأر لمقتلها.. والأسطورة الألمانية «برومهيلدا وسيجفريد» التى تحكى عن عقاب والد برومهيلدا لها بوضعها فوق قمة جبل ثم أحاطها بالنيران وكلف التنين بحراستها، لكن سيجفريد استطاع تحريرها لأنه، كما يروى الطبيب شولتز لشريكه جانجو الذى حرره من العبودية، لم يَخَفْ النار ولم يرْهب التنين! كان على چانجو أن يواجه النار والتنين المتمثلين فى هؤلاء السادة المتحصنين فى قلاعهم خاصة كاندى الذى امتلك برومهيلدا الجميلة السمراء «كيرى واشنطون» زوجة وحبيبة چانجو الذى كان هدفه فرديا وهو إنقاذ زوجته، لاحقا وفى محاولة متهورة لإنقاذ برومهيلدا من براثن كاندى تبدأ بمجزرة دموية تتفجر فيها الجثث وتتطاير الأشلاء ويقتل فيها كاندى والطبيب وتنتهى باستسلام چانجو خوفا على حياة برومهيلدا الرهينة، لكنه -كما شاء تارانتينو- يفلح فى الهروب ويعود لينتقم مفجرا مزرعة كاندى بمن فيها من البيض مطلقا سراح كل العبيد محررا زوجته منتصراً، يقف منتصبا، على طريقة رعاة البقر «الكاوبوى» فى نهاية الأفلام، لكنه كاوبوى أسود! سيناريو أحْكم تارانتينو حلقاته وأتقن بناء شخصياته، وأداء رفيع المستوى من مجموعة الممثلين خاصة كريستوف ڤالتز الذى لعب دور الطبيب بحيوية فائقة وقدرة على الانتقال السلس من انفعال لآخر فى ذات اللحظة ببراعة ويسر، كما لعبت الموسيقى والأغانى دوراً مهما فى استعادة أجواء سينما «الويسترن» وأضفت على رحلة چانجو لمسة أوديسية أسطورية ساحرة، تفصح عن تفرد وخصوصية سينما هذا المخرج المستوعب للتراث السينمائى، العاشق له والمتمرد عليه وإن زاده قسوةً ودموية. تُرى ماذا كان سيحدث لو تحقق ما تصوّره تارانتينو بخياله الخصب وثار العبيد الذين حَرّم عليهم البيض ركوب الخيل؟ أحسب أن التاريخ لم يكن لينتظر أكثر من قرنين كى يعتلى «باراك أوباما الأسود » مقعد الرئاسة!