مرض عابر ألمَّ بى، علمنى شيئاً عجيباً.. جهلى بالمرض جعلنى أظن أن روحى توشك أن تُقبض، فما كان منى إلا الإكثار من ترديد الشهادة والاستغفار، أملاً فى عفو الله ورحمته.. لم تصعد روحى بعدُ، بأمر الله وحده، فها أنا أكتب مقالاً أسجل فيه درس هذه التجربة. استيقظت على دوار مؤلم، لا أستطيع رفع رأسى سنتيمتراً عن «المخدة»، وكلما تشجعتُ وحاولتُ تدور بى الغرفة بقوة 40 «ريختر»، فأعود للشهادة والاستغفار والحمد، بصوت أحرص على خفضه كلما اقتربت زوجتى، حتى لا يصيبها الفزع.. أسجل لها إخلاصاً شديداً وتفانياً فى رعايتى، كما أعبر عن خالص امتنانى لأطباء نبلاء سارعوا لنجدتى.. التهاب بالأذن الداخلية أفقدنى توازنى عدة أيام، قال لى طبيب خفيف الظل: «الفردة الشمال نايمة»! أراد أن يُبسِّط لى الفكرة بتشبيه حالتى بمن يقود سيارة وقد تسرب الهواء من الإطار الإمامى الأيسر.. علمونى ألا أغمض عينى عند الشعور «بالدوخة»، وأن أُثبّت نظرى على أى عنصر فى المستوى الأفقى، وبالفعل تراجعتْ مدة النوبات وشدتها تدريجيًّا، حتى اختفت تماماً بفضل الله. لم أعد أشعر بوزن رأسى، وتعقد معدتى، حينها أدركت الحقيقة التى دفعتنى إلى كتابة هذا المقال؛ إنها حقيقة العلاقة بين الإنسان وجسده.. اكتشفت أن هذه العلاقة تكون فى أحسن حالاتها عندما ينسى المرء أن له جسداً.. أفضل علاقة لك بمعدتك ألا تشعر بوجودها.. نفس الشىء يسرى على الرأس وكل الأجهزة التى لا تملك تحريكها أو وقف حركتها بإرادتك.. تكره أن تشعر بأسنانك، كما تكره أن تشعر بعينيك أو أذنيك.. تكره أن تشعر بفقراتك، وتنزعج كثيراً لو شعرت بقلبك أو بنبضه.. حفظكم الله من كل سوء، ومتعكم بالصحة والعافية. «شميت نفَسى»، وتماثلت للشفاء، وبدأت أتأمل تلك العلاقة الفريدة بين الإنسان وجسده، ووجدتنى -دون أن أدرى- أسحبها على علاقة الإنسان بشئونه الحياتية: تريد أن تدير مفتاح صنبور المياه فى الصباح، دون أن يخطر ببالك احتمال ألا يسيل منه ماء نظيف.. تريد أن تسير فى الشارع، دون أن تتلفت حولك تحسباً لهجمة من بلطجى أو قفزة من فوق مطب صناعى.. تتمنى أن تركب القطار، وفرصة وصولك للمحطة التالية شبه مؤكدة بفضل الله.. تحلم أن يقتصر وقوفك فى الطوابير على طابور معرض عالمى يزور القاهرة، أو فيلم جديد، أو حديقة الحيوان فى العيد، أو استفتاء على مواقع المدن الصناعية ومناطق تعمير الصحارى.. تحلم بهذه الطوابير، بدلاً من كوابيس طابور العيش والوقود وتأشيرة ليبيا! تتطلع لاستقبال الصيف دون أن يشغلك انقطاع التيار الكهربائى، لتتفرغ لحساب ما يمكن ادخاره من دخلك لقضاء إجازة صيفية مع أسرتك ولو لأيام معدودة فى مصيف شديد البساطة والنظافة فى نفس الوقت، وكيف لا يكون نظيفاً إذا بدأ ما أسميه «المشروع القومى لدورة القمامة الكاملة»، الذى يضع مصر على رأس الدول التى تَبْرع فى تدوير القمامة، كما تبرع فى إعادة استغلال مياه النيل الغالية أربع أو خمس مرات لتخرج عن نطاق الفقر المائى؟! تريد أن تحصل على التعليم والعلاج والسكن وأنبوبة البوتاجاز دون أن تشعر، لتتفرغ لأداء عملك ورسالتك فى الحياة.. لن نتقدم حتى نتوقف عن الدوران حول أنفسنا، وهو ما لن يحدث إلا إذا تعاونّا جميعاً على علاج «الفردة النايمة»، أقصد «كل الفرد النايمة»، سواء كانت فى الحكومة أو المعارضة.