فى الجزء الثانى من «ليالى الحلمية» تناول أسامة أنور عكاشة مسألة حل «الحزب الشيوعى»، وانضمام كوادره إلى الاتحاد الاشتراكى. قال إنه كان موقفاً انتهازياً، تخيلوا بموجبه أن فى استطاعتهم السيطرة على المركز العصبى للحكم فى مصر: على أية حال أنا لا أتبنى نظريات فى تحليلى لما حدث. وما يحكمنى هو معايشتى الشخصية. وسواء توافق ذلك أو تعارض مع تنظيرات الإخوة الماركسيين.. فتلك مشكلتهم وليست مشكلتى. ■ قلت لأسامة: الجيل الصغير فى «ليالى الحلمية»، جيل «على وعادل البدرى وزهرة وناجى وقمر السماحى»، ملىء بالتناقضات.. ما معنى ذلك؟. هل كانت هذه التناقضات إفرازاً للمناخ الذى تربوا فيه؟. - أزعم أيضاً أننى عشت ذلك بنفسى. هؤلاء يمثلون جيلى ومرحلتى. كان هناك نوع من التمرد على الواقع الاجتماعى الموروث. وكان اهتمام بعضنا بالسياسة مجرد محاولة للبحث عن بديل، أو تعويض عن إحباطات كثيرة فى محيطاتنا الأسرية. معظم الأسر المصرية -المتوسطة بالذات- لم تكن تعانى كثيراً من الفقر والفاقة، لكنها لم تكن تتمتع بإمكانية الطموح. كان الطموح محصوراً فى الوظيفة، فالذى يتخرج فى كلية الهندسة كان يجد أمامه فرصاً أكبر من غيره، لأن البلد كان فى مرحلة تصنيع، وكان هناك السد العالى، فكانت الوجاهة أن تتزوج الفتاة ضابطاً أو مهندساً، وكان بقية الناس من غير الضباط والمهندسين يعانون نوعاً من الغيرة أو التمرد على واقعهم. كان من النادر ألا «نتخانق» خصوصاً بعد الهزيمة. الكل يضرب فى الكل، والضربة التى تلقيناها أفقدتنا القدرة على تحديد الاتجاه. أفقدتنا الإيمان بالمبدأ، واهتزت الثوابت.. «اتلخلخت».. وكان كل ذلك حرياً بأن يعبر عن نفسه فى حياتنا. ولو نظرت إلى الأسر التى نشأ فيها جيل على وعادل وزهرة وناجى وقمر.. ستجد أنها أسر تعانى من مشاكل جوهرية. «على البدرى» (ممدوح عبدالعليم) مثلاً تربى يتيماً وأبوه رأسمالى كبير على قيد الحياة، و«زهرة سليمان غانم» (آثار الحكيم) تنكر لها الأب والأم ونشأت فى بيوت الناس، و«عادل البدرى» (هشام سليم) يعانى من شهوانية وتخبط أمه «نازك السلحدار» (صفية العمرى). وربما كان «ناجى السماحى» (شريف منير) هو الوحيد الذى احتفظ بتوازنه فى أغلب الأحيان. كان أكثرهم حدة وعنفاً، خاصة فى دفاعه عن مبادئه التى يومن بها. كان «يغير» من زوج أمه «مصطفى رفعت» (محمد وفيق) ويتمسك أكثر بصورة والده، المناضل الشهيد «طه السماحى» (عبدالعزيز مخيون)، وهذا موقف «أوديبى» معروف فى علم النفس، وموضوع غيرته على «قمر السماحى» (حنان شوقى) ابنة عمه، مسألة مألوفة عندنا كشرقيين. و«ناجى» هو الوحيد الذى لا تحكمه «عقد نموه». بالعكس.. هو مولود لأب مفخرة لأى شخص، وأم فاضلة لها تاريخها المشرف، لكن الظروف الموضوعية تضغط عليه. وفى الجزء الرابع من المسلسل، بعد الانفتاح الاقتصادى وكامب ديفيد ومعاهدة السلام وغيرها من تطورات، لن يجد «ناجى» أى دور نضالى يمكن أن يلعبه، فيتحول إلى إنسان مصرى نمطى متفرغ تماماً لمهنته. هذا الشاب الذى وصلت به الإيجابية حداً جعله يسلم نفسه للتجنيد رغم أنه معفى منه.. تصبح المهنة طوق النجاة الوحيد الذى يتعلق به، بعكس على البدرى الذى سيتحول فى الجزء الرابع إلى أحد وحوش الانفتاح بعد أن قضت تجربة السجن على كل ما تبقى لديه من إيمان بما سبق. وعلى فكرة.. مصائر الشخصيات ليست مسألة مزاجية، بل تفرضها الدراما. فالكاتب يستطيع أن يخرج العفريت من القمقم، لكنه فى الغالب لا يستطيع بعد ذلك أن يسيطر عليه أو يتحكم فيه. ■ لوحظ أن رد فعل النكسة فى المسلسل بدأ من خارج مصر، من باريس، هل لذلك معنى؟ - طبعاً تعمدت ألا أتعرض لتفاصيل الحرب لأننا كما تعرف شبعنا منها. وقد فكرت كثيراً: من أين أبدأ؟. الطبيعى أو العادى أن أبدأ من هنا.. من مصر: مارش عسكرى فى الراديو والناس يقولون «الحرب قامت».. وخلاص. هذا ما فعلته من قبل فى «الشهد والدموع». لكننى فضلت هذه المرة أن أنظر إلى الصورة من الخارج، وهذا يوفر لى «نقلة ناعمة» لجو الحلقة.. يجعله أقرب إلى الحزن الهادئ بلا انفجارات أو بكائيات أو هستيريا. ■ «سماسم» (سهير المرشدى) تاهت واكتشفوا جثتها فيما بعد، و«زينهم السماحى» (سيد عبدالكريم) تاه ثم عاد، و«توفيق الصغير» تاه وتأخر فى النطق، هذه «التوهة» بشقيها المادى والنفسى والمصحوبة بحالة فزع من أهل «الحلمية».. ماذا تعنى؟. هل هى جزء من رد الفعل على النكسة؟. - أنت تريد أن ترى مردود حدث ضخم كالهزيمة على وجوه الناس، من دون اللجوء إلى مطولات كلامية، وفى إطار دراما تليفزيونية لها مواصفات وشروط معروفة. هذا يتوقف على قدرتك ككاتب على صياغة كل ذلك فى سياق الحدوتة بحيث يعطى أثره المطلوب. فإذا اعتبرنا -تجاوزاً- أن هؤلاء الناس يمثلون جوهر الشعب المصرى.. فإن علينا أن نسأل: ماذا كان شعور هذا الشعب فى فترة ما بعد الهزيمة، وفى ظروف اللخبطة والتوهان وضياع الأحلام على مختلف المستويات؟. البنت تفقد أمها، والرجل يفقد زوجته، وتوفيق يموت ويكتسى البيت بالسواد والكآبة، والطفل الصغير يتأخر فى النطق. البحث عن «الضائع». البحث عن الحلم الذى لم يعد موجوداً: هذه هى التيمة التى قصدت بالفعل أن تكون شائعة فى العمل كله. وغداً يتجدد الحوار