يشير صاحب «البداية والنهاية» إلى أنه «لمّا قُتل عبدالله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فخطب الحجّاج بن يوسف الثقفى الناس فقال: أيها الناس إن عبدالله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب فى الخلافة ونازعها أهلها، وألحد فى الحرم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان فى الجنة وهى أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التى نهى عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله». أغلب كتب التاريخ تنعت الحجاج بن يوسف الثقفى بالاستبداد والدموية، ولا خلاف على أن أهواء المؤرخين ومواقفهم من حكم بنى أمية انعكست بصورة أو بأخرى على نظرتهم إلى رجال دولتها، وأخطرهم «الحجاج بن يوسف الثقفى»، فقد أسدى هذا القائد إلى الدولة الأموية العديد من الخدمات، وكان له أدوار شديدة المحورية والأهمية فى الحفاظ عليها. لقد اعتبر بعض الكتاب والمؤرخين «الحجاج» رمزاً للقيادة المتسلطة الديكتاتورية، ربما كان معهم بعض الحق فى ذلك، طبقاً للمعايير التى يقيسون عليها، لكن يبقى أنهم نسوا فى غمرة غضبهم على هذه الشخصية الفريدة ما تفرضه الكتابة التاريخية من موضوعية فى تناول الأحداث والأشخاص، ونسوا قبل هذا وذاك أن التاريخ سمى للأجيال المتتالية مستبدين كثراً، لم يكن لأى منهم قدرات أو ملكات «الحجاج». بدأت هذا المقال بمقتطف من واحدة من أشهر خطب «الحجاج»، لا لكى أستدل بها على بلاغة الرجل، وقد كان -فى الواقع- قمة فى البلاغة، بل لكى أدلك على جانب من الأدوات التى مكنت هذه الشخصية من السيطرة، فكما كان «الحجاج» يجيد سحق جماجم خصوم الدولة الأموية بسيفه، كان يتمتع أيضاً بقدرة خاصة على سحق عقول مستمعيه، بكفاءته فى الإقناع. استلهم الحجاج مشهد طرد آدم (عليه السلام) من الجنة، وهو يبرر الأمر للغاضبين من قتله عبدالله بن الزبير فى جوف الكعبة فى مكة (البلد الحرام). فبدأ كلامه بامتداح خصمه والإشادة به، ووصفه بأنه كان واحداً من خيار الأمة، إلى أن نازع عبدالملك بن مروان أمر الحكم، ورنا بعينيه إلى كرسى الخلافة، هنالك خرج من مرتبة «الخيرية» فى نظر الحجاج إلى دائرة الشر المستطير، ولم يكن أمامه، كأحد الرجال المسئولين عن حماية الدولة، سوى التحرك ضده، وقد فعلها، فقاتله، حتى إذا أوى إلى الكعبة ليختبئ فيها من خيل الحجاج ورجله، قام بهدها فوق رأسه بالمنجنيق، وذلك ما راع أهل مكة، لكن المثل الذى ضربه لهم الحجاج كان دامغاً، حين قارن لهم بين آدم الذى طرده الله من الجنة لما عصى، وابن الزبير.. ومؤكد أن آدم خير وأكرم عند الله من ابن الزبير، والجنة أشد حرمة عند الله من مكة. قد يرى البعض فى هذه الخطبة تلاعباً بالعقول، وتوظيفاً لبلاغة القول لتبرير فعل وحشى، لكن السؤال «كم من الناس يمتلك هذه القدرة؟». مؤكد أن الاستبداد لا يأتى من فراغ، والمستبد ليس إنساناً محدوداً، بل شخص يمتلك أدوات خاصة تمكنه من السيطرة، وإملاء إرادته على الآخرين، وبيئة عامة تدعم فكرة الاستسلام. ولو أنك تأملت تاريخ المسلمين فستجد -ويا للعجب- أن أنجح قادة الأمة كانوا من المستبدين، وأن أغلب الدول التى تعاقبت على المسلمين سقطت عندما تولى أمرها حكام ضعاف طيبون. وهى مسألة لا تتعلق بالإسلام بحال من الأحوال، قدر ما ترتبط بطبيعة العقلية التى تميل إلى الاحتفاء بالقوة.. المهم أن تكون قادرة!