كان عبدالله بن الزبير من أكثر أبناء كبار الصحابة مناوأة لفكرة توريث الحكم، وكان أشدهم طموحاً إلى الخلافة، لكنه لم يفكر فى لحظة فى الخروج من مكة، والتحرك إلى أرض غيرها، لينازع يزيد بن معاوية الحكم، كما فعل الحسين بن على، فقد آثر أن تكون مكة مقراً له ومحلاً لثورته ضد «يزيد». وقد اندلعت ثورة «الزبير» مع دخول سنة أربع وستين من هجرة النبى (صلى الله عليه وسلم)، وهو العام نفسه الذى شهد تحرك «مسلم بن عقبة» إليه، بعد أن فرغ من استئصال شأفة الأنصار فى الحرة، وأخمد ثورتهم ضد «يزيد» بالمدينةالمنورة، وقرر بعدها المسير إلى مكة قاصداً قتال «ابن الزبير»، ولكن حدثت فى الطريق حوادث وجدّت أمور. فقد بدأ «مسلم» يشعر بدنو الأجل فبعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، وقال: «إن أمير المؤمنين عهد إلىّ إن حدث بى حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير، ووالله لو كان الأمر لى ما فعلت»، ثم دعا به فقال: «انظر يا ابن بردعة الحمار، فاحفظ ما أوصيك به»، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز «ابن الزبير» قبل ثلاث، ثم قال: «اللهم إنى لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أحب إلىّ من قتل أهل المدينة، وأجزى عندى فى الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إنى لشقى»، ثم مات، ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده فى ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه، فما متعهما الله بشىء مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده وسلبهم الملك ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء، كما يقول صاحب «البداية والنهاية». وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم، وقد انضم إلى «ابن الزبير» جماعات ممن بقى من أشراف أهل المدينة، وانضاف إليه نجدة بن عامر الحنفى من أهل اليمامة فى طائفة من أهلها، ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه «ابن الزبير» فى أهل مكة ومن التف معه، فاقتتلوا عند ذلك قتالا شديدا، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة، فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبدالله بن الزبير به، فكرّ عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبدالرحمن بن عوف وطائفة، وصابرهم «ابن الزبير» حتى الليل فانصرفوا عنه، ثم اقتتلوا فى بقية شهر المحرم وصفراً بكماله، فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق (جمع منجنيق وهو آلة لقذف الحجارة) على الكعبة ورموها حتى بالنار فاحترق جدار البيت، وقيل إنما احترقت لأن أهل المسجد جعلوا يوقدون النار، وهم حول الكعبة فعلقت النار فى بعض أستار الكعبة، فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت، وقيل إنما احترقت لأن «ابن الزبير» سمع التكبير على بعض جبال مكة فى ليلة ظلماء فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليمانى والأسود من الكعبة فعلقت فى أستارها وأخشابها فاحترقت، واسودّ الركن، وانصدع فى ثلاثة أمكنة منه، واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعى يزيد بن معاوية، فغلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب، ويقال إنهم مكثوا يحاصرون «ابن الزبير» بعد موت «يزيد» نحو أربعين ليلة، ويذكر أن «ابن الزبير» علم بموت «يزيد» قبل أهل الشام، فنادى فيهم: «يا أهل الشام، قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع». وذكر «ابن جرير» أن «حصيناً» و«ابن الزبير» اجتمعا بظاهر مكة، فقال له «حصين»: «إن كان هذا الرجل قد هلك، فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلم فارحل معى إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان»، ويقال إن «ابن الزبير» لم يثق منه بذلك وأغلظ له فى المقال، فنفر منه «ابن نمير»، وقال: «أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لى فى المقال؟!»، ثم ندم «ابن الزبير» على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: «أما الشام فلست آتيه، ولكن خذ لى البيعة على من هناك فإنى أؤمنكم وأعدل فيكم»، فبعث إليه يقول له: «إن من يبتغيها من أهل البيت بالشام لكثير»، فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها، وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم على بن الحسين زين العابدين، وارتحلت بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك. وقد ظل عبدالله بن الزبير مسيطراً على «الحجاز» حتى استردها الأمويون زمن عبدالملك بن مروان على يد الحجاج بن يوسف الثقفى.