هى حارة ضيقة، لا يفصلها عن أطول برج تجارى فى مصر على كورنيش النيل سوى أمتار قليلة، حارة الكفراوى، ملتوية كالثعبان، أرضيتها غير مستوية وموحلة، تتوسطها بيوت وعشش خشبية مهترئة معروفة باسم «عشش رملة بولاق»، تؤوى فى أحشائها عدداً غير قليل من البائسين، يدعون ربهم كل مساء بأن يخفف عنهم سقوط الأمطار التى، تنهمر عليهم من السماء دون حائل، لا تفلح الأسقف البالية فى صدها، فتصل إلى أمتعتهم بكل يسر وتنجح فى إفسادها، أصوات الأمطار المتساقطة داخل هذه العشش تسرق النوم من عين الأمهات ليلاً وتؤرق الأطفال الذين يستعدون لأداء الامتحان فى الصباح. الحوائط والجدران المبللة بمياه الأمطار لا يأمنها الأهالى بسبب أسلاك الكهرباء المنتشرة فى كل الأنحاء، سكان العشش فى انتظار الأسوأ دائماً، ما تلبث الكارثة أن تمر حتى تتبعها الأخرى، منذ شهور قليلة التهمت النيران العديد من العشش والمنازل، ودمرت ما فيها من أثاث وأجهزة كهربائية، وتسببت فى قتل عمار محمد، طفل لم يكن بلغ عامه الرابع. جلست جدته، وفاء عبدالنبى التى تبلغ من العمر 50 سنة، أمام منزلها تترقب. أغرقت الأمطار أثاثاً منتشراً فى غرفة مكشوفة بمنزلها، ترى من خلالها بسهولة برجَى نجيب ساويرس المرتفعين بكورنيش النيل، الأمطار لم ترحم الغرفة الثانية المغطاة بالسقف الخشبى، يعيش فى هذه الغرفة 5 أفراد من بينهم أخوا عمار الصغيران، هالة وزياد، يحتميان من البرد داخل غرفتهما الضيقة، وبجوارهما أوانٍ كبيرة يستخدمونها فى جمع الأمطار المنهمرة من السقف الخشبى، بنبرة حزن تقول السيدة: «قبل الحريق كان منزلنا مكوناً من طابقين، يعيش فيه 5 أسر كاملة، لكنهم الآن مشتتون فى أحياء القاهرة لدى أقاربنا، الأمطار تطير النوم من عينى من فرط سقوطها بالغرفة، تسقط بكل أنحائها تقريباً، بيتنا لا توجد به دورة مياه، وعلى من يريد قضاء حاجته أن يذهب إلى دورة مياه جارتنا وفاء سعيد التى احترق بيتها أيضاً لكنها شيدت حماماً جديداً فى زاوية من الحارة بدون باب، ولا يسترنا إلا قطعة من القماش». وتضيف: «بعد الحريق بنينا غرفتين واحدة مغطاة، والأخرى مكشوفة تماماً، قلة حيلتنا لم تسمح لنا ببناء سقف». على ما يبدو أن معظم الأهالى فى رملة بولاق يشتركون فى نفس الهم، وفاء سعيد سيدة أربعينية، الفقر، وتشققات البرد يظهران على وجهها بوضوح، أنجبت 3 أبناء، أحرقت النيران منزلها المكون من 3 طوابق، اقترض زوجها مبلغاً من المال ليعيد بناء البيت من جديد، جدران المنزل تتخللها فتحات كبيرة يتسلل منها برد الشتاء، والسقف الخشبى لا يمنع سقوط الأمطار على المراتب والفراش، لم تتمكن ابنتها مريم، الطالبة بالصف الأول الإعدادى، من المراجعة ليلة الامتحان بسبب «تنقيط» المياه عليها طوال الليل، وظلت تساعد أمها فى تفريغ الأوانى المملوءة بالمياه، تنساب الدموع من عينى السيدة المسكينة وهى تتذكر احتراق منزلها، تتوقف قليلاً ثم تقول بنبرة يملأها الحزن: «رئيس النيابة طلب منا التوجه إلى مجمع التحرير لصرف تعويضات عن الحريق، وذهبنا إلى هناك، وبعد شهر كامل من إنهاء الأوراق اللازمة، قال لنا الموظفون جئتم متأخرين، وذهبت إلى قسم الشرطة لأحصل على أنبوبة البوتاجاز التى انفجرت خلال الحريق ولم يعطونى شيئاً». أخبار متعلقة: «الوطن» ترصد «شتا الغلابة».. مصر التى باتت فى العراء سكان عشش بولاق: الأمطار تغرقنا ونحن نيام.. والرئيس مش سامع صوتنا