خاطف هو الضوء الذى يشع من بين ثنايا الوجه. هنا من هذه الجبهة العريضة التى تنحصر بين شعر الرأس الأسود الفاحم، والحاجبين الكثيفين المتباعدين. ومن الجفنين المغلقين على عينين غابت عنهما الرؤية، ومن الوجنتين المنبسطتين على جانبَى الوجه كأنهما دفتا كتاب مفتوح، ومن الأنف المستقيم وكأنه سهم نافذ يشير إلى الفم المضموم، وحتى الذقن الذى يغيب معظمه أسفل لحية سوداء ضخمة، تزيد بسوادها الفاحم شعاع الضوء المتسرب من الوجه وضوحاً، فى تحدٍّ سافر لذلك الزائر الغريب الذى اعتاد أن يطوف بالوجوه فيطفئها، وبالأرواح فيسلبها، وبالحيوات فيعصف بها وينهيها. فإذا ب«سيد بلال» -صاحب الوجه- ينتصر عليه، مسجلاً بوجهه المضىء علامة خلوده فى سجل الشهداء الذين رسموا بدمائهم الطاهرة الطريق لملايين من المصريين، خرجوا فى ظهيرة يوم ليثوروا فى وجه الظلم، ويسقطوا نظاماً كان يستمد قوته من ضعفهم، فلما اجتمعوا تبين لهم أنه كان أوهن من بيت العنكبوت. وكالعنكبوت التى تعيش على اصطياد فرائسها فلا تتركها إلا جثثاً هامدة، كان النظام يتعامل مع المواطنين، فى البدء كان «خالد سعيد» ابن محافظة الإسكندرية، ثم تبعه «سيد بلال» ابن المدينة نفسها، وفى حين لفقت ل«سعيد» قضية مخدرات، فإن «بلال» قبض عليه بتهمة تفجير كنيسة «القديسين» بالإسكندرية، ذلك الحادث الذى وقع فى ليلة رأس السنة، وراح ضحيته عشرات المسيحيين الذين كانوا يقيمون الصلاة فى ذلك الوقت، ولأن «بلال» كان واحداً ممن ينتمون ل«الدعوة السلفية» بالإسكندرية، فقد كان اصطياده سهلاً، إذ إن «الدعوة السلفية» كانت تقود حملة ضخمة وقتها للمطالبة بظهور كاميليا شحاتة، مسيحية قيل إنها اعتنقت الإسلام، وخطفتها الكنيسة لإجبارها على العودة للمسيحية، وفى ظل الأوضاع الملتهبة التى تزامنت مع حادث تفجير الكنيسة، كانت التهمة تنادى صاحبها، وكان صاحبها أبعد ما يكون عما اتهم به. راح سيد بلال فى مثل هذا اليوم من العام قبل الماضى، قبض عليه، ثم عُذٍّب، ثم ألقيت جثته إلى أهله مع رسائل تهديد ووعيد بألا يفتحوا أفواههم، ولا ينبسوا بكلمة، أما الأهل فأقاموا دعوى، وأما السلفيون الذين ينتمى إليهم «سيد» فاكتفوا بأن يُصلّوا عليه ويدفنوه ليلاً ثم جلسوا ينتظرون ما سيسفر عنه الغد، وعندما أسفر الغد عن ثورة عارمة وضعت الثأر لدماء سيد بلال هدفاً لها، فإنهم امتنعوا عن المشاركة فيها، ليس خوفاً من النظام الذى كان حاكماً، ولكن لأن الشرع، كما كانوا يرددون، يحرم الخروج على الحاكم، ولسيد بلال رب يحميه، ويقتص له ممن ظلمه من رجال النظام. وصحيح أن دماء «بلال» ذهبت كما ذهب غيرها دون حساب لمن أراقها، إلا أن روح صاحبها سوف تظل مع غيرها، أيضاً، تراقب المشهد من عل، ربما يأتى اليوم الذى يرحل فيه الظلم عن مصر بغير رجعة فتهدأ أرواح الشهداء، وتستقر فى قبورها آمنة مطمئنة.