ميدان الفكر غير ميدان السياسة، الأول ينتصر فيه العقل، والثانى تحسمه التربيطات. السياسة هى فن الممكن، وإدارة الانتخابات الرئاسية ليست محاضرة فى قاعة أنيقة بمدينة نصر، ولذلك جاءت نتيجة الانتخابات تعبيراً عن القدرة على الحشد، ونجا من المرشحين أقدرهم على الصرف والإنفاق، وهكذا قطعت الصناديق قول كل خطيب. «بالعدل تحيا مصر»، هكذا عبّر المفكر القدير سليم العوا عن فلسفته فى إنقاذ مصر من ورطتها، لكن مخاطبة شعب فى النجوع والكفور تحتاج إلى ماكينة انتخابية ضخمة، وتنظيم بشرى لا قِبَل للمحامى المخضرم به، هى مواجهة بين قطارين على قضبان الوطن، الإخوان والفلول، أما قوى الثورة فقد تفرقت كلمتها بين عبدالمنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى، وخرج سليم العوا من السباق ب235 ألف صوت وفق النتائج الرسمية للجولة الأولى، ثم قال لأنصاره «مَن أيدونى اختاروا من يؤيدونه فى جولة الإعادة، وأحيى الاختيار الحر، وأنصارى مش قوالب طوب أحطهم فى المكان اللى على مزاجى». كل أصحاب المُحكّم الدولى تخلّوا عنه، حزب الوسط أعلن دعمه مرشحاً للرئاسة قبل أن يختار دعم الحصان الرابح عبدالمنعم أبوالفتوح، وراهن العوا طويلاً على الإخوان، مدعوماً بخلفيته الإسلامية، لكن الجماعة غيرت حساباتها وقررت الدفع بمرشح أربك المشهد السياسى ولم يكن أمام العوا إلا مواصلة السباق. تبدو تجربة الانتخابات مريرة، لكن العوا ربما يعود إلى سابق نشاطه الثقافى والتنويرى، وكانت جمعية مصر للثقافة والحوار التى يديرها منبراً هادئاً للنقاش، ومكاناً يرتاده الكثير من الشباب الباحث عن فكر وسطى دون أن يورط نفسه فى تنظيمات إسلامية مغلقة. يحتفظ الرجل بعلاقات طيبة مع أغلب القوى السياسية كأحد رموز الحوار الوطنى، وخاض صراعاً فكرياً ونضالاً قانونياً طويلاً فى قضايا الحريات، مدافعاً عن حق حزب الوسط فى ممارسة العمل السياسى، وترافع عن قيادات الإخوان فى محاكماتهم العسكرية، وقاد جلسات حوار مع الكنائس الوطنية، وعندما اشتد الاقتتال الداخلى بين الجماعة الإسلامية والدولة المصرية كان للعوا دور بارز فى وقف العنف، وراح المفكر الوسطى يناقش أبناء التيار المتشدد من الجماعة الإسلامية لإقناعهم بالمنهج السلمى فى التغيير. غير أنه أثناء سيره فى معترك السياسة والفكر، تعثر فى اتهامات السلفيين له بالتشيع بسبب تمسكه بالحوار مع إيران ونظريته التى يقول فيها إن محور (القاهرةطهرانأنقرة) سيعيد بناء خريطة الشرق الأوسط، ونفى الرجل طويلاً تهمة التشيع وسرعان ما وقع فى صدام مع الكنيسة، حين أثار فى حوار تليفزيونى ما وصفه بالسلاح الموجود فى الكنائس ومطالبته بتفتيشها، وهو الآن يتحسس خطواته فى مصر «الجديدة» بين طريقين، العودة إلى محراب الفكر أو الخوض فى دهاليز السياسة.