كان مما دفع الإمام البنا إلى إنشاء دعوة الإخوان المسلمين فى مدينة الإسماعيلية سنة 1928، وجود خلاف فقهى وانقسام قديم حول بعض النقاط الفرعية، بين مؤسسات وجمعيات الدعوة، وكان وراء تزكية هذا الخلاف أصحاب المطامع والأهواء. كما كان إنشاء الدعوة بوسطيتها وشمولها وربانيتها وعالميتها ضرورة نتيجة الصراع القوى العنيف بين الأجنبى المحتل والمغتصب للأمة، وبين المجاهدين من الوطنيين. وكلنا نعلم من التاريخ ماذا فعل بنا البريطانيون، وكيف كانت مدينة الاسماعيلية وغيرها من المدن المماثلة، تبدو وكأنها ثكنة عسكرية للمحتل، وكذلك كانت مرتعاً خصباً للأجانب وخصوصاً الفرنسيين بسبب إدارتهم لقناة السويس. فى هذه الأجواء المشحونة، رأى الإمام البنا أن يحدد للدعوة الجديدة خصائص حتى تتميز بها عن غيرها من الدعوات القائمة فى عصره. وكان من هذه الخصائص أولاً كما جاء فى الرسائل، البعد عن مواطن الخلاف، لأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف فى الفرعيات أمر ضرورى لابد منه، لأن العقول والأفهام تختلف حتى فى فهم وتفسير أصول الاسلام من آيات وأحاديث وأعمال، ولهذا كان ذلك النوع من الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم. ويرى الإمام البنا أنّ حَسْبَ الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً، وأن يختلفوا فى غير ذلك. ويرى الإمام البنا من الخصائص ثانياً، البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء، إذ يرى أن الكبراء والأعيان يسعون إلى دعوات تستتبع المغانم وتجر المنافع، وحتى لا يطمس هؤلاء الكبراء والأعيان لون الدعوة الجديدة الصافى المجردة عن الغايات والأهواء، وحتى لا يحاول أحد من هؤلاء تحويل الدعوة أو توجيهها فى غير الغاية التى قصدت إليها أو أن يستغلها لمصالح شخصية أو منافع ذاتية أو دنيوية فحسب، وطبعاً الدعوة يجب أن تكون ضد كل هيمنة داخلية أو خارجية. ويرى الإمام البنا ثالثاً أن البعد عن الأحزاب والهيئات، من خصائص الدعوة الجديدة آنئذ كذلك، فماذا كان يعنى الامام بذلك؟ كان الإمام البنا يرى أن بين الأحزاب التى نشأت فى حضن الانجليز تنافرا وتناحرا لا يتفق مع إخوة الاسلام، ويرى الإمام البنا أن دعوة الاسلام دعوة عامة تجمع ولا تفرق، ولا ينهض بها ويعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه وأهوائه وصار لله خالصاً بعيداً عن الوصول من خلال حياة الحزبية أو الجماعة إلى الجاه والمال، وضرورة ترك المظاهر الفارغة التى لا غناء فيها، وأن يتوحد الجميع تحت لواء القرآن العظيم، وأن يستظلوا براية النبى الكريم ومنهاج الاسلام القويم. أما التدرج فى الخطوات، وهى من أهم خصائص الدعوة رابعاً، فيرى الإمام البنا ضرورة الاعتماد على التربية ووضوح الخطوات، لاعتقاد الاخوان أن كل دعوة لابد لها من مراحل ثلاث هى: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها للجماهير، ثم مرحلة ثانية هى مرحلة التكوين وتخير الأنصار واعداد الجنود وتعبئة الصفوف بين هؤلاء الذين وصلتهم الفكرة والمشروع، ثم فى النهاية مرحلة التنفيذ والعمل والانتاج. ويرى الإمام البنا أن الداعى يدعو للخير ويتخير الجنود، ويسعى فى تربيتهم، والجميع يعمل وينفذ فى نفس الوقت. ويرى الإمام البنا أن النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية، وكثرة الأنصار، ومتانة التكوين. ومن أجمل ما قاله الإمام البنا فى هذا الصدد "ومازلنا ندعو وسنظل كذلك حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة وعلى وجهها الصحيح". وكان الإمام البنا رحمه الله تعالى يخشى على الدعوة خشية كبيرة وخصوصاً أن ينتمى إليها من ليس أهلاً لحملها، أو ان يسود فيها من لا يلتزم بتعاليمها ولا يفقه كل جوانبها. ولذلك فهو يقول فى آخر رسالة التعاليم مخاطباً كل عضو فى الإخوان على وجه الخصوص: فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففى صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين. واعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غاياتك، كان جزاؤك العزة فى الدنيا والخير والرضوان فى الآخرة، وأنت منا ونحن منك، وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر، وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب. فاختر لنفسك ونسأل الله تعالى لنا ولك الهداية والتوفيق"..انتهى كلام البنا. وهو بهذا الكلام الجميل والنقد الذاتى للدعوة والمنتسبين إليها، ينبه إلى خطورة السيادة أو الرئاسة قبل التفقه، كما ينبه إلى إمكانية صعود بعض من ينتمون إلى الدعوة اسماً لا فعلاً، وقد يصلون إلى قمة التنظيم الدعوى ويحملون أكبر الألقاب، ولكنهم مع ذلك فى نظر الدعوة من القاعدين. ومن صفات هذه الدعوة كذلك إيثار الناحية العملية على الدعاية والاعلانات خشية أن يشوب الرياء العمل لهذه الدعوة وأن يسرع إليها التلف والفساد. ولذلك فإن الإخوان يجب أن ينفروا من الادعاءات الكاذبة والتهريج الذى ليس من ورائه عمل، لما يؤدى ذلك إلى أثر سيئ وتضليل كبير وفساد ملموس. كما أن الإخوان يخشون من معالجة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة مما يؤدى إلى تعويق فى السير أو تعطيل عن الغاية. ومن الصفات المهمة كذلك التى عددها الإمام البنا هى سادساً: الإقبال على الدعوة وخصوصاً من الشباب. ثم سابعاً سرعة الانتشار فى القرى والمدن. كم كان الإمام البنا موفقاً وهو يؤكد على أركان البيعة العشرة، من الفهم والاخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة. وهى صفات إن إجتمعت فى شخص أو جماعة فلابد معها من النجاح. وكم كان الإمام البنا رائعاً وهو يقول فى أول أصل من أصول الفهم العشرين: " الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة. وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء". والله الموفق نقلاً عن العدد الثاني من جريدة "الوادي"