بدأ الرئيس محمد مرسي السير علي خطى كلا من سابقيه "أنور السادات وحسني مبارك" ففي البداية كان الإدعاء بسعة الصدر واحتضان الجميع، إلى آخر تلك التوصيفات التي يدبجها كتاب خطابات الرئيس حتى يقدموه في صورة مصقولة وملساء لرئيس واسع الأفق رحب النفس وفي العادة كانت أنياب الرئيس تظهر بعد فترة لتهدد وتمزق المناوئين لسلطانه. سيسجل التاريخ أن خطبته بالكلية الحربية كانت أولى حلقات مسلسل الوعيد والتهديد المتصاعد، الذي ربما يصل قريبًا إلى حملات الاعتقالات، وربما حملات تأديب للمعارضين على أيدي أعضاء الإخوان، والسلفيين أيضًا إن استمر شهر العسل بين الجماعتين. قال "مرسي" يوم السابع عشر من يوليو الجاري (أقول للذين يتطاولون ويجرحون الناس، وهم عدد قليل جداً، وهم من أبناء مصر ولهم كل الحقوق، أقول لهم "لا يغرنكم حلم الحليم"، فإننا يمكن بالقانون، وبالقانون وحده أن نردع، ولكنني بكل الحب أفضل علي ذلك وقبل ذلك الحب والألفة والعود الكريم إلي الحق" ثم انتهت الرسالة التهديدية. وبتحليل هذه العبارة المصوغة بعناية قال د.سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، أنه بالتمعن في خطاب "مرسي" نجد أولاً كلمة "المتطاولون"، التي ترمي إلى رفع مكانة الرئيس والتحقير من منتقديه، رغم أن المعارضين فيهم قامات عالية جدًا، مما يندر أن يكون في جماعة الإخوان المسلمين من يدانيها ثم تأتي المفارقة من وصف هؤلاء المتطاولين عليه وعلى جماعتهم بأن عددهم قليل جدا، فإذا كان هذا صحيحًا فما الذي يزعج رئيس الجمهورية منهم؟. وتابع نحن هنا بين احتمالين لا ثالث لهما، إما أنه لا يقول الحقيقة وعددهم بالفعل كبير جدًا أو مرشح للزيادة الكبيرة، وإما أن تأثيرهم، على قلتهم، كبير جدًا، وهذا ينفي الإدعاء الأول بأنهم "يتطاولون"، وإنما هم في الحقيقة في المكانة الأعلى. المشكلة الحقيقية للرئيس "مرسي" وجماعته على مستوى ممارسة السلطة، وبالأحرى السلطوية، أن الأجهزة الأمنية ليست موالية له "بما فيه الكفاية"، ومن ثم فهي لن تكون مرحبة بأن تكون أداة في يد مكتب الإرشاد الإخواني لملاحقة خصومه السياسيين. كما أن "مرسي" لا يستطيع النزول فورًا بجحافل من جيوش الإخوان قبل عام أو عامين مثلاً، لتأديب الخصوم السياسيين أو قمع التحركات الطبقية، فأقصى استخدام لها سيكون لحماية منشأة رئاسية أو نيابية أو لتنظيم المرور والإشراف على جمع القمامة وحل المنازعات اليومية في الشارع، وإن كانت ميلشيات السلفيين قد تسرعت بالنزول إلى الشارع لفرض "مكارم الأخلاق". وبالطبع لن يقف الجنرالات في الجيش متفرجين على "مرسي" إن لجأ إلى هذا النوع من الحلول كما يقول الدكتور سعد الدين ابراهيم، أستاذ الإجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية، أما تهديده باللجوء إلى القانون فهو يتناقض مع الصراع المتفجر بين جماعة الإخوان والكثير من أعضاء الهيئات القضائية الذين تتهمهم جماعة الإخوان بالانتماء "للدولة العميقة" أي أن تهديد المرسي هذا باللجوء للقضاء "فشنك" فيما يظهر. غير أن اللفتة الأخطر في خطابه قد وردت فيما بين السطور، وفحواها محاولة إضفاء نوع من الحصانة أو القداسة على منصب الرئاسة، فأي نقد له يمكن اعتباره تطاولاً، وهكذا فهو ينزلق أو يتوجه بإرادته وإرادة جماعته نحو النهج المباركي الكريه، أو نحو النهج المتمسح في الدين الذي يريد أن يجعل من الحاكم شخصًا غير مقبول المساس به. وأضاف "سعد الدين" أن المشكلات الضخمة التي تنتظر مرسي كي يحلها لا يمكن أن تحل في سنوات، بينما هو تسرع في دعايته وتحدث عن مائة يوم، كما أظن أن رهانه على قدوم الدول الخليجية وتركيا باستثمارات ضخمة إلى جانب جزء من المحفظة الاستثمارية للتنظيم الدولي للجماعة، لدعم نظام حكم الإخوان لن يتحقق في أمد قريب، وإن تحقق فلن يكون قادرًا على حل سريع لمشكلات الاقتصاد المصري المستفحلة، خاصة وأن طبيعة هذا النوع من الاستثمارات يميل إلى التوجه لقطاع الخدمات، وخاصة المضاربات المالية والعقارية. أما رهانه على الولاياتالمتحدة فمحدود الفعالية، بسبب الأزمة المالية العالمية وما تفرضه على أحجام ومقاصد المعونات، وربما تزايد القلق في الدوائر الغربية من "مغامرات" الولاياتالمتحدة مع "حركات وحكومات الإسلام المعتدل". كما أن الانخراط الأمريكي الأكبر مع الإخوان سيتطلب من الإدارة الأمريكية ترضية إسرائيل بمكاسب وتطمينات ستضع المرسي وحكومته في حرج شديد. ومن ثم فإن "الرئيس" اليوم في وضع لا يحسد عليه فهو في صراع قاسٍ مع الجنرالات، رغم كون الجانبين من قوى الثورة المضادة حسبما يقول مدير مركز بن خلدون، ومن عدم وجود خلاف نوعي بينهما على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية، إلا أن هناك خلافًا محتدمًا على الحصص وعلى الخروج أو البقاء الآمن. ومن جانبه أشار الدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس أن الرئيس "مرسي" أصبح في موقف بالغ الحرج أيضًا، لأن "ثورة التوقعات" التي أشعلتها حملته الانتخابية والإعلامية بعد انتخابه وسط قطاعات مهمشة وغير واعية سياسيًا، سرعان ما ستتحول إلى ثورة غضب وبعجلة أكثر تسارعًا. وهو ما يعترف به الإخوان ضمنًا من خلال إصرارهم على المجالس النيابية التي يحتلون أغلبيتها مع السلفيين، كما أنه من المتوقع إن كُتب لهم الاستمرار في صياغة الدستور أن يضعوا فيه بنودًا انتقالية تسمح باستمرار الرئيس وهذه الهيئة أو تلك بعد اعتماد الدستور. وربما تزداد مصاعب الرئيس "بالنيران الصديقة"، إذ يبدو أن نهم مكتب الإرشاد للسلطة والثروة يجعله متعجلاً من أمره دون مراعاة للوضع الدقيق لسفيرهم في قصر الرئاسة، بل قد يكون هو نفسه الورقة التي يمكن المغامرة بحرقها لصالح ورقة أخرى هي المهندس خيرت الشاطر مثلاً الذي يسعي لنيل ما يظن أنه يستحقه بوصفه اللاعب الأكبر في صنع ثروة وقوة الجماعة في العقدين الأخيرين. وهذا ما دفع "زهران" إلي توقع أن يشترك "مرسي" بنفسه في تهديد المعارضين، وألا يترك المهمة لكوادر في جماعة الإخوان أصبحت مثل الأوراق المحروقة هي الأخرى، كصفوت حجازي وصبحي صالح ومحمد البلتاجي وعصام العريان وحسن البرنس وسعد الحسيني وأحمد أبو بركة. واختتم "زهران" حديثه ل"الوادي" قائلاً إن الشهور المقبلة تشهد تخبطا من قبل الرئيس على كافة المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وكلما ازداد التخبط "سيفقد الحليم حلمه" وسيرتفع منسوب فقدان الإخوان لأعصابهم، وسيلجأون إلى استعراض عضلاتهم والقمع المعنوي والمادي. وبالأحرى سيتطاولون على المعارضين الذين لعبوا الدور الأكبر في الثورة، ولكن جنى مكتب الإرشاد ثمارها لأسباب عديدة، فهل يدرك الوطنيون الديمقراطيون والثوريون مغزى وعيد مرسي ليتحركوا فورًا بحثًا عن سبيل لحماية الشعب من تغول جماعة معادية للتنوير وللمواطنة وللوطنية وللعدالة الاجتماعية.