نجم الذي ظل يحمد الله على عدم تعامله مع عبدالحليم حافظ حتى مات محمد خان الذي سيذكر التاريخ أنه كان مصريا أكثر من المصريين أنفسهم مولانا الشيخ ياسين ملأ بصوته فراغ أرواحنا ورفض أن يسلم نفسه لمنتجي السبوبة وأكلى لحوم البشر 1- واقتصرت جنازة الفقيد على بعض الأقارب: ظل نجم يحمد الله على عدم تعامله مع عبدالحليم حافظ حتى مات وصل الشاعر الشاب لتوه إلى القاهرة قادماً من بلدته الصغيرة بالشرقية، الى شقة عبد الحليم حافظ بالزمالك، حاملاً له بعض الهدايا من خاله الذي رباه، ووصية شديدة اللهجة بأن يتعاون حليم مع ذلك الشاب الذي خرج من السجن مؤخراً ، قرأ عبد الحليم رسالة خاله، وقاد الشاب الوافد من القرية إلى حجرة صغيرة بالشقة، وربت على كتفيه، وقال له مشجعاً: دى هتبقى أوضتك يا أحمد وعايز أسمع أغانيك الحلوة بقى. جلس عبد الحليم يستمع إلى أحمد فؤاد نجم الذي كان رفيق صباه في أحد الملاجئ وقد أعجبته الكثير من أغانيه، فقدمه للموجي والطويل، بل وأخذه من يده إلى عبد الوهاب شخصياً، ثم بليغ فيما بعد، كان حليم فخوراً بذلك الشاب جداً، وصنعا معاً أروع الأغاني العاطفية التي قادت نجم الى عالم الشهرة وأغلفة المجلات، وواصلا معاً المشوار، ففي كل موسم غنوة جديدة، وخطوة جديدة تتبعها شهرة جديدة، ليصبح نجم من سكان المهندسين، ويتوافد عليه المطربين والمطربات في صراع محموم على أغانيه، كرًمته وزارة الثقافة أكثر من مرة في عهد الوزير ثروت عكاشة، ثم في عهد الوزير يوسف السباعي الذي منحه جائزة الدولة، وسلمه إياها السادات بنفسه، بعد أن كتب له أجمل أغاني العبور وأصبح نجم الشاعر الرومانسي والوطني ذو الألف أغنية، وجاء من بعدهم الرئيس مبارك الذي تبنى نجم وأفسح له المجال باعتباره شاعر الوطن، ليقدم له أجمل "الأوبريتات" والتي سطرها بحروف نور، وكان نجم في كل مرة يقدم الملحمة، بشكل مختلف، وفى كل مرة يلتقى السيد الرئيس والسيدة حرمه وينعم بالتسليم عليهما، ولا يخلو الأمر من مداعبة يتبعها، "شيك" مالي يضاف إلى رصيده في البنك، بل و"عزومة" كبيرة على شرف "الهانم" مع فريق العمل، عادة ما تكون في القصر الكبير، وجاءت ثورة يناير وكان نجم في بداية عامه ال80، وتساءل نجم كيف ينقذ ذلك المجد؟. ونزل بكل قوته إلى ميدان مصطفى محمود، وحاول جاهداً الاتصال بالجميع، بكى في كل القنوات، مناشداً الشعب الرجوع إلى المنازل، واحترام سيادة الرئيس، على وعد بأن يكمل الرئيس مدته، ثم ينسحب من المشهد في هدوء، محذراً الشعب من الفوضى ومرارة العيش، ومن المتآمرين على أمن الوطن، وكان خروج العائلة "المباركة" من الحكم صدمة لنجم شاعر الوطن ومؤرخ الضربة الجوية بامتياز، وظل الشاعر يكافح إلى أن سقط النظام على عكس ما كان يريد، وجاء مرسي وانزوى نجم من المشهد، ثم ما لبس أن عاد في ثوب جديد، ثائراً هذه المرة، واستغل كل قوته ونفوذه فأسقط الإخوان ومرسي، بعدها تنفس نجم الصعداء، وعاد إلى نفسه من جديد، قدم آخر أوبريت له أمام الرئيس الجديد وقادة الجيش، فكان المشهدُ مهيباً عند سفح الهرم، نزلت دموعه بغزارة وسلم من جديد على الرئيس وأحتفى معه بمصر، وجاءه التكريم هذه المرة بوشاح النيل في حضور كبير وختام مشرف لشاعر الوطن. وصحت القاهرة ذات صباح، على نبأ وفاة شاعرها العظيم، وأمر الرئيس منصور بجنازة عسكرية مهيبة، ودفن الجثمان في مقبرة شيدت خصيصاً على مساحة واسعة بمدينة العبور، جُهزت باستراحة فخمة حتى يتمكن عشاق نجم من زيارته من وقت لآخر، وفي اليوم التالي نعاه السيد الرئيس بنفسه في نعي كبير داخل برواز في وفيات الأهرام، وتبارت بعض قنوات التلفزيون المصري في إذاعة أغانيه مع حليم رفيق مشواره وبعض من فقرات الأوبريت الأخير، وذكرت بعض الصحف القومية عدداً من أعماله في خبر صغير لنعيه على الصفحة الأولى كتب في نهايته "وقد اقتصرت جنازة الفقيد على بعض الأقارب ومندوب السيد الرئيس وبعض هواة التصوير في هذه المراسم، في حين غاب عن المشهد نجوم المجتمع والفنانين وشركاء مشوار الشاعر الكبير". 2- وظل يردد شكره طوال الوقت على منحه الجنسية المصرية: محمد خان الذي سيذكر التاريخ أنه كان مصريا أكثر من المصريين أنفسهم طلبت السيدة جيهان السادات من العاملين بالرئاسة دعوة فريق فيلم "ضربة شمس" إلى القصر الرئاسي لتكريمهم على ما قدموه من مجهود في هذا الفيلم الرائع الذي ينبغي يمثل السينما المصرية في المحافل العالمية بجدارة، وذلك بعد أن فرغت من مشاهدة الفيلم في عرض خاص أقيم خصيصاً لها، واشترطت في الدعوة أن يكون مقدمة المدعوين المخرج الشاب –وقتها- محمد خان ونجوم العمل نور الشريف ونورا وليلى فوزي ..إلخ ، ولمست جيهان بذكاء شديد حرص المخرج الشاب على الحديث إليها منفرداً، وما أن اقتربت منه حتى قال لها بصوت خافت: سعادتك أنا مولود في مصر لأب باكستاني وأم مصرية وعندي أمل كبير إني آخد الجنسية المصرية. أشارت السيدة الأولي لأحد المساعدين وعلى الفور كان النبوي إسماعيل وزير الداخلية على التليفون متحدثاً إليها ، ليصدر قراره في صبيحة اليوم التالي بمنح المخرج محمد خان الجنسية المصرية كسابقة أولى في التاريخ، وعلى أثرها قرر خان الذهاب لوزارة الداخلية لتقديم الشكر إلى الوزير، وما أن اطمأن الوزير لشخص المخرج الشاب حتى أسند أليه فيلماً تسجيلياً يبرز أهم انشطة الوزارة ويبيض صفحتها أمام الرأي العام، وأضطر خان وقتها للقبول، وقدم الفيلم وأشاد به النبوي، ومنحه مكافأة مالية كبيرة، وشقة في مساكن الضباط في ضاحية المعادي تطل على النيل مباشرة، وكان خان وقتها في أسعد أيامه، وما إن علمت السيدة الأولى بهذه الأمر حتى طلبت الوزير وقالت له بحدة ودهاء: إنت هاتخطف منى المخرج ولا أيه؟ دا أنا اللى إديته الجنسية، عموماً إبعتلى الفيلم أشوفه. شاهدت جيهان الفيلم وبهرت بالصورة والتعليق وكيف قدم المخرج الموهوب صورة ضابط الشرطة وهو يساعد الناس ويكون في خدمتهم، فيأخذ ضابط المرور بيد السيدة العجوز ليعبر بها الطريق، وهذا ضابط الجوازات يقدم الخدمة بمنتهى رحابة الصدر، وبابتسامة عريضة للوافدة الاجنبية، وغيرها من المشاهد البراقة التي صنعها خان بحرفية عالية، جعلت السيدة الأولى تنبهر وتفخر بأنها هي التي منحت ذلك الشاب الباكستاني الموهوب الجنسية المصرية، وعلى الفور طلبت السيدة الأولى المخرج لتوكل إليه فيلماً وثائقياً جديداً لأعمالها الخيرية، ولم يجد خان نفسه قادراً على الرفض، مبرراً ذلك بأن مشروعه السينمائي مازال أمامه، وانشغل خان في تقديم السيدة الأولى في أبهى صورة لها، سافر إلى معامل لندن وهوليود للخروج بأفضل جودة ممكنة للفيلم، وكانت النتيجة كما أراد فيلماً مبهراً ورائعاً، جعل السيدة السادات تتصل بقرينات الرؤساء وتدعوهم لمشاهدة الفيلم، وأصبح خان في القلب والعين لدرجة جعلت السادات نفسه ذات مساء يقترب من جيهان ويقول لها: ماتخلى الواد محمد خان دا يعملى فيلم انا كمان ياجين. قفزت الفكرة في عقل جيهان ونفذتها في فيلم كبير يتم تصويره عن حياة "بطل الحرب والسلام" ولا مانع من تقديم الرجل في صورة الرئيس المؤمن لمواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وتصويره في قريته ميت أبو الكوم بالجلباب والبلغة والعباءة، ونجح خان في المهمة التي رفعته إلى القمة وبُهر السادات نفسه بالفيلم، وتمت ترجمته إلى سبع لغات حية، وتم عرضه في جميع المراكز الثقافية المصرية حول العالم، وبحضور السفراء، وظل خان يكرم من عاصمة إلى عاصمة، إلى أن صدر قراراً جمهورياً بتعيينه مسؤولاً بالرئاسة عن الأفلام الوثائقية السينمائية، بل وأسند إليه لأول مرة توثيق العرض العسكري، وطلب خان ميزانية ضخمة لتقديم العرض بصورة مبهرة للعالم أجمع، وكان خان كلما اتصل به منتج أو سيناريست أو حتى نجم كنور الشريف أو أحمد زكي أو عادل أمام، يعتذر لأنه مشغول في إخراج أهم عرض عسكري في التاريخ .. وكانت كارثة العرض وأستشهد السادات. وظل خان يواصل عمله الوظيفي في رئاسة الجمهورية في "حضور وانصراف" رتيب، مدة سنتين دون عمل يذكر، إلى أن لمحته السيدة سوزان "صدفة" في ردهة القصر، وقد بدا عليه الشحوب والانزواء وانصرف عنه الضوء، فطلبته بمكتبها وبادرته بمداعبة لا تخلو من "نقرزة": أيه يا محمد ما بتعرفش تشتغل غير مع جيهان ولا أيه ؟ ورد خان رد الموظف المحنك: لا يا هانم إنت تؤمرى، إحنا كلنا هنا تحت أمر جنابك. ابتسمت الهانم وقالت: طب يلا ورينا، عايزين نشوف شغلك، وأي حاجة عايزها اطلب على طول. عادت الحياة من جديد تبتسم لخان، وقدم كل ما عنده من أفكار لخدمة الوافد الجديد على الرئاسة، وتقديمه في صورة "بطل الحرب وقائد الضربة الجوية"، ومن فيلم إلى فيلم حتى أصبحت اللعبة بلا بريق، وبلا حضور، وبلا حماس، وظل الرئيس يقدم شكره لخان من وقت لآخر، وفي كل مرة كان خان يكرر شكره له وللمصرين الذين منحوه الجنسية المصرية، إلى أن حانت اللحظة التي عرض فيها الابن المقرب للرئيس على أبيه مخرجاً شاباً لديه أفكاراً متطورة، آملا في ضخ دماء جديدة في صورة الرئيس التي بدأت في الخفوت والبهتان، في البداية تعاون خان مع المخرج الجديد، ونقل له بعض خبراته حتى تمكن المخرج الجديد من رسم صورة جديدة للرئيس في انتخابات الرئاسة التي تتم لأول مرة في مصر. واقترب خان من سن التقاعد فتم تكريمه من العاملين معه في الرئاسة ومنحوه بعض شهادات التكريم، ونال مكافأة معقولة عن خدمته في الرئاسة، وظل خان يردد شكره طوال الوقت للمصريين على منحه الجنسية المصرية حتى خرج من مبنى الرئاسة. 3- أصبح نجم نجوم العالم العربي كما أراد له "البرنس" أن يكون: مولانا الشيخ ياسين الذي ملأ بصوته فراغ أرواحنا عندما رفض أن يسلم نفسه لمنتجي السبوبة وأكلى لحوم البشر جلس في شرفة منزله المطلة على نيل الزمالك يتذكر مشوار حياته، بعد أن بلغ ال57 عاماً، وقد بلغت شهرته عنان السماء وأصبح معروفاً في كل انحاء مصر، ومن لا يعرف "ياسين التهامي" المغني المعروف صاحب أعلى مبيعات في العالم العربي، ومن ينسى أغانيه الرومانسية التي صنعها أهم المؤلفين والملحنين ووزعت ملايين النسخ. ضحك ضحكة خفيفة ساخراً من بدايته البسيطة حيث كان يغنى في الموالد ويغنى قصائد صعبة، لا يفهما مؤلفيها أنفسهم ثم سخر مجدداً: آآآآال ابن الفارض آآآل وابن عربي وابن الرومي هاهاهاهاها ولاَ الحلاج راخر هاهاهاهاها . وسخر أكثر عندما قسم جمهور حفلاته إلى ثلاث أنواع من الجماهير، ويظل يردد في سخرية النوع الأول: وهو النوع الحسي البسيط وهو نوع يميل ويطرب ويستمتع لكنه قد لا يفهم عمق المعاني هاهاهاها، والنوع الثاني: وهو النوع العلمي المتعلم وهو نوع من الجمهور يأتي ليسمع ويتعمق في المعاني فقط دون محاولة للتعايش بإحساس ما هاهاهاها، أما النوع الثالث: وهو نوع يجمع بين النوعين السابقين الحسي والمتعلم وهو أفضل أنواع الجماهير وهاهاهاها. وظل التهامي يضحك حتى دخل عليه مساعده وقال له: يا نجم، "البرنس" وصل، انتفض الرجل وهب يستقبل ضيفه الكبير الذي لا ينسى أبداً أفضاله عليه، وانحنى لتقبيل يده وقال: الزمالك نورت يا عم البرنسات. ابتسم الضيف وقال له: فاكر يا ياسين لما كنت بتغنى في الموالد حاجات غريبة كدة ومحدش فاهملك حاجة وجبتك أنا وعملتك ؟ رد ياسين وقد أحمر خجلاً وقال: ودى حاجة تتنسي يا ملك، اتفضل ادخل، العشا جاهز. قال "البرنس" في عجرفة بالغة: لا، انا بس جيت أسلم عليك وأفكرك وانت بتحتفل بسنة جديدة إن أنا اللي عملتك ها.. أوعى تكون ناسي. قال الرجل كلماته المعدودة ورحل مخلفاً صمتاً رهيباً دوى في شقة المطرب المعروف الذي رحل بعيداً بذاكرته ليتذكر تلك الأيام. كان ميلاده في أحدى قرى محافظة أسيوط وحلمه أن يكون أبرز المنشدين وأن تصل شهرته إلى العالم كله، وأن يكون واحداً من المنشدين الأوائل في موالد الحسين والسيدة والسيد البدوي. حفظ القرآن بالرغم من أنه لم يكمل تعليمه، حلم أن يشتهر بكلماته وبصوته وتمنى أن يكون بلبل الصعيد، وفارس الانشاد الديني، وقرر أن يغنى عدداَ من القصائد المهمة في التراث الصوفي وأعد منها الكثير. وبدأ المنشد الشاب الحفظ والتجويد مع الفرقة، وذاع صيته في الصعيد، وبدأت أخباره تنتشر، وبدأ المثقفون يتحدثون عنه، فسمع عنه المنتج الكبير الملقب "بالبرنس" وقرر أن يكون هذا المنشد فرسه القادم في السباق على عرش السوق، واحتكاره أكثر مما هو محتكر، وأن يكون دجاجته التي تبيض ذهباً كل صباح، في البداية رحب بمشروعه وقدمه في ألبوم كامل من ألبومات الصوفية، فنجح نجاحاَ كبيراً. وفى الألبوم الثاني قال له: لابد أن نجارى الذوق الموسيقى بتقديم أعمالك على موسيقى حديثة بنظام "التراكات"، فوافق الشاب المتحمس الراغب في الشهرة والانتشار. وفى الألبوم الثالث قال له :لازم نقرب أكتر من الجمهور ونغير جلدنا وناخد نفس القصائد ونخلى الشعرا بتوعنا "يسنجفوها" بكلام شعبي كدة وبسيط. تردد المنشد الصعيدي في البداية لكنه سرعان ما قبل وغره العرض، فقبل، وشيئاً فشيئاً بدأ الرجل في التنازل عن مشروعه المنتظر، ثم تنازل عن شخصه وشخصيته فيما بعد، وبدأ في تغيير شكله أيضاً بعد أن غير مضمونه، فخلع عمامته وجلبابه الشهير، واستبدلها في البداية بأرقى ماركات البدل، ثم استبدلها بالقميص المشجر المفتوح، وبدأ في اختيار تسريحات شعر مناسبة، وظهرت صوره على أغلفة المجلات الفنية، وأصبح ممن يطاردون بالشائعات الغرامية والقصص المحكمة، التي تجذب عشاق النميمة، انتقل الى السكن في حي الزمالك الهادئ تاركاً عيشة الفنادق والشقق المفروشة، ركب أغلى السيارات، وسافر إلى معظم بلدان الدنيا للتنزه والتسوق، وذاعت سيرته حتى أصبح نجم نجوم العالم العربي كما أراد له "البرنس" أن يكون. من قلبي: وقالوا العبرة في نهايتك وقالوا العبرة بالخواتيم ليك رب يكتب حكايتك بس مين يقراها مين ؟