"الجدع جدع والجبان جبان، بينا يا جدع ننزل الميدان والميدان بعيد عن جوف المدينة، يا تار الشهيد في القنال وسينا" من منا لم يسمع أو يردد تلك الكلمات وراء الشيخ إمام بصوته الثوري الشجي في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير؟ تشعر وأنت تسمع تلك الكلمات أنه ينشدها لأول مرة، علي الرغم من مرور عشرات السنين علي غنائها وتحديدا في أعقاب هزيمة 67، حيث المطارات المضروبة والمدن التي تكاد أن تشعر أنها بلا حراس والجنود الهائمون على وجوههم في البراري تطاردهم عار الهزيمة والحيوانات المفترسة والأمهات في البيوت اللاتي يتمنين الأرض أن تبتلعهن لأنهن خسرن الضنى الغالي والوطن الأغلى معا. في تلك الملابسات ومضت في الأفق ثلاث اشارات كأول قاطرة للأمل في العمليات الفلسطينية الفدائية ذات الطعم الخاص والمتعلقة باختطاف الطائرات، مظاهرات الحركة الطلابية المصرية، والشيخ امام عيسى، مغني الثورة والوطن. ولدت ظاهرة الشيخ إمام وسط هذه الملابسات كزهرة وسط صخر وظل صوت الشيخ الضرير،ابن التعليم الأزهري، يشكل الخلفية الصوتية والوجدانية لمئات الثوريين المصريين من ناصريين ويساريين جدد ووطنيين ديمقراطيين في نضالاتهم اليومية في حقبة من أشد حقب مصر أهمية، لكن الشيخ الذي جمع كل هؤلاء حوله كان يمثل لغزا كبيرا لدي المصريين يبحث عن أكثر من اجابة. فماذا كانت قناعات الشيخ الايديولوجية؟ وكيف كان الشيخ يعشق الزعيم عبدالناصر ويغني ضده أو ضد نظامه في نفس الوقت؟ هل كان الشيخ إمام ماركسي لينيني أو بلفظة أخرى شيوعي، إذا لم يكن كذلك فكيف يفسر احتضان عشرات الشيوعيين له، كيف اقترب الشيخ من رفيق رحلة كفاحه الشاعر أحمد فؤاد نجم ولماذا انفصلا؟ كل هذه الأسئلة ...وأسئلة أخرى لا تقل أهمية تكشف عنها "الوادي" في السطور التالية؛ ولد الشيخ إمام محمد أحمد عيسي في الثاني من يوليو عام 1918 في قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة، لأسرة فقيرة، وقد أصيب في السنة الأولى من عمره بالرمد الحبيبي، وفقد بصره بسبب الجهل واستعمال الوصفات البدائية في علاج عينه، فقضى إمام طفولته في حفظ القرآن الكريم. تحكي عنه الفنانة عزة بلبع في تفصيل واسهاب قائلة "إنه لم يخطر على باله قط أن العود من حق المكفوفين حتى تصادف وجوده في إحدى السهرات الغنائية والتي كان فيها أحد المكفوفين وضرب على العود، ليلتها لم يذق طعم النوم واستيقظ ليذهب إلى صديقه كامل الحمصاني يرجوه أن يعلمه العود، والذي لم يستغرق منه كما تروي بلبع أكثر من أربع جلسات. وفى عام 1962، التقي الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، رفيق دربه، وتم التعارف بينهما عن طريق زميل لابن عم نجم كان جاراً للشيخ إمام، وعندما سأل نجم إمام لماذا لم تلحن؟ أجابه الشيخ إمام أنه لا يجد كلاما يشجعه علي الغناء، وبدأت الثنائية بين إمام ونجم وتأسست بينهما شراكة دامت سنوات طويلة، وذاع صيت الثنائي والتف حولهما المثقفين والصحفيين خاصة بعد أغاني "أنا أتوب عن حبك أنا"، "عشق الصبايا" و"ساعة العصاري". انتشرت قصائد نجم التى لحنها وغناها الشيخ إمام كالنار في الهشيم داخل وخارج مصر، فكثر عليها الكلام واختلف حولها الناس ما بين مؤيدين ومعارضين، في البداية استوعبت الدولة الشيخ وفرقته وسمحت بتنظيم أكثر من حفل غنائي في نقابة الصحفيين وفتحت لهم أبواب الإذاعة والتليفزيون، لكن سرعان ما انقلب الحال بعد هجوم الشيخ إمام في أغانيه على الأحكام التى برأت المسؤلين عن هزيمة 1967. فألقي القبض عليه هو ونجم ليحاكما بتهمة تعاطي الحشيش سنة 1969 ولكن القاضي أطلق سراحهما، وظل الأمن يلاحقهما ويسجل أغانيهم حتى حكم عليهما بالسجن المؤبد ليكون الشيخ إمام أول سجين بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية. رحل فنان الشعب عن عالمنا في هدوء في يونيو من عام 1995 تاركاً وراءه أعمالاً فنية قلما يجود التاريخ بمثلها مرة أخري، فلديه أكثر من 350 أغنية، معظمها أغان سياسية ووطنية لمصر وفلسطين وغيرها من الأغاني الساخرة والناقدة لشخصيات أجنبية وعربية كما وله أغان عاطفية وغنى أيضا موشحات شرقية. ورثاه نجم بكلمات رائعة قال فيها "بييجى العاشق ويروح ويفوت موال مجروح، فى هواك وهواك تغريبه ياوطن والغربة صعيبة، والصعب يهون ياجميل فى هواك وهواك مواويل، وطريقك عشق طويل والعشق كتاب مفتوح، فيه العاشق بيروح ويفوت موال مجروح". ويقول الشاعر أحمد فؤاد نجم في نهاية تلك الإطلالة السريعة علي حياة صديق العمر ورفيق الدرب إن المرء لا يملك وهو يحتفل بذكري رحيل الشيخ إمام إلا أن يسأل نفسه سؤالا، ربما بدى مؤلما أو مفرحا لدي البعض، تُرى هل تعبر بنا مرة أخرى ظاهرة الشيخ إمام ذاك المغني الذي كان أباؤنا وأجدادنا يخبئون اسطوانات أغانيه من المخبرين ويخفضون صوت المسجل وهو يصيح بصوته الشجي الرافض؟ أم أن شعبان عبدالرحيم هو الامتداد المنطقي للغناء السياسي للشيخ إمام وسيد درويش في زمن العولمة؟ سؤال نتمنى من كل قلوبنا أن تكون اجابته لا!