رغم عنف الفجيعة عند الوداع فإن قصة عمار الشريعى مستمرة لأنها قصة وطن وحكاية شعب، هذا الفنان المثقف أبدع بطريقته قصة وطنه فاستحق حب شعبه. عامل التكوين الثقافى كان حاسما فى مسيرة الشريعى ومن هنا كان عمله هو عشقه خلافا لنوع آخر يدخل عالم الفن من أجل الشهرة أو المال وقد لايحب فى أعماقه الفن أو يقتنع فى دخيلة نفسه بجدوى مايفعله. ومن الطريف أن كتابا جديدا هو سيرة ذاتية للفنان ريتشارد بيرتون بقلم كريس ويليامز يؤكد أن هذا الممثل العظيم و"النجم الدونجوان" والزوج الأكثر شهرة لقطة هوليوود المدللة اليزابيث تايلور كان فى الحقيقة لايحب التمثيل. ولعل كتاب "يوميات ريتشارد بيرتون" يكشف بوضوح أن هذا الممثل الوسيم شدته منذ البداية غواية المال والشهرة وهاهو يعاني في نهايات الرحلة من الاحباطات رغم كل النجاحات الظاهرة فيما يتبدى تأثير الكحوليات فى صوته المشروخ، فهل المشكلة فى التكوين الثقافى للفنان؟. على أي حال هذا الفنان الويلزى الأصل لم يدع يوما ما أنه مثقف كبير بقدر ما يظهر هذا الكتاب الجديد أن البيئة الفقيرة التى انتجت ريتشارد بيرتون كانت عاملا جوهريا فى هوسه بالترف والنساء الجميلات وبالقدر ذاته يمكن القول إن بيرتون اتخذ من الفن مجرد طريق أو سبيل لتحقيق أحلامه المحصورة فى المال والجميلات والتمتع بنجومية الشهرة أو شهرة النجم. من هنا كان ريتشارد بيرتون محقا عندما أدرك أن عالمه مرهون بوسامته على الشاشة الكبيرة وكم يستحق التحية لصدقه الفطرى فى هذا الكتاب وابتعاده وهو النجم الكبيرعن الادعاءات المغرورة وهو يسلم بأن عالمه لن يدوم طويلا. والحقيقة أيضا أن الكتاب الذى حرره كريس ويليامز عن سيرة حياة ريتشارد بيرتون يكشف عن هاجس أصيل لهذا النجم حيال الموت وخشيته دوما من أن يرحل عن هذه الحياة وهو لم يتمتع بعد بكل ترفها حتى أنه اعتبر نفسه محظوظا أن عاش حتى أواخر الأربعينيات. هذا نموذج يختلف كل الاختلاف عن عمار الشريعى دارس الأدب الانجليزى فى جامعة عين شمس والتأليف الموسيقى بالمراسلة مع مدرسة "هادلى سكول" الأمريكية لتعليم المكفوفين وإن اشتركا معا فى فضيلة الصدق رغم اختلاف التكوين الثقافى. فعمار الشريعى الذى يستحق أكثر من كتاب بمستوى فكرى عميق كان مثقفا بمعنى الكلمة ودون إدعاء فيما كانت غوايته مختلفة كل الاختلاف عن نجم كريتشارد بيرتون، فعمار الشريعى القادم من بيئة ميسورة بالمعنى المادى عاشق كبير لمصر تماما كما هو عاشق للموسيقى وسحر الأنغام والألحان. وكالأدب العظيم، فإن الموسيقى العظيمة التى تخلد هى "سنديانة جذورها بنت بيئتها وتعبر عن خصائصها الأصيلة ومنها تنبت بالابداع وتحلق لسماء الانسانية"، وهكذا كان عمار الشريعى صاحب أكثر من 150 لحنا شرقيا بتقاسيم تنطق بالمصرية، فهو "الغواص فى بحار البصيرة" مثلما هو "الغواص فى بحر النغم". ومن هنا يحق للشاعر عبد الرحمن الأبنودى أن يقول إن عمار الشريعى الذى رحل مؤخرا عن 64 عاما "كان أكثر أصدقائه إبصارا ولم يكن موسيقيا أو ملحنا فقط مثل الآخرين ولكنه كان عالم موسيقى أراد أن يدخل فى عقولنا ووجداننا علم الموسيقى وأن يوقظ ذائقتنا لنستقبل وعيا موسيقيا ونعيد النظر فى كل تراثنا الغنائي". والحقيقة أن قصة عمار الشريعى تظهر أن هناك فارقا كبيرا بين "العزلة" و"التسامي"، فالمثقف الحقيقى لا ينعزل عن قضايا مجتمعه وهموم شعبه وإنما يتسامى عن صغائر الدنيا واحباطاتها مثلما كان عمار الشريعى الذى تناولت أعماله الموسيقية عدة رسائل جامعية وأطروحات لدرجتي الدكتوراة والماجستير أو الدكتور محمد زكى العشماوى الذى تحل ذكرى مولده الحادية والتسعين وكان يتوجب الاحتفال بهذه الذكرى تكريما لمثقف كبير ونموذج للعالم الذى جمع فى روحه الثرية بين العلم والفن. كان العشماوى عاشقا للمسرح وقام مع الفنان الراحل محمود مرسى بترجمة كتاب قسطنطين ستانسلافسكى الشهير :"إعداد الممثل"، فيما يقول الدكتور لطفى عبد الوهاب مؤسس قسم المسرح بكلية الآداب فى جامعة الأسكندرية إن الدكتور محمد زكى العشماوى كان ممثلا مسرحيا بارعا.