نتحدث دائماً في مواقف كثيرة عن أن أعداء الأمس يمكن أن يكونوا أصدقاء اليوم ، أو العكس ، ونتحدث عن أنه إذا جاز لعبارة كهذه أن تكون مبدأً أو ما يشبه المبدأ ، في أي مجال من المجالات العامة ، فهذا المجال سيكون مجال السياسة قبل سواه من المجالات العامة الأخرى ! ولو أننا تلفتنا حولنا في المنطقة العربية ، فلن نجد مشهداً سياسياً في هذه اللحظة ينطبق عليه هذا المبدأ ، سوى المشهد السياسي التونسي في لحظته الراهنة ! إننا نعرف أن انتخابات رئاسية جرت في تونس في الشهر الماضي ، وقد فاز فيها المرشح المستقل قيس سعيد وصار رئيساً ، ونعرف أن انتخابات برلمانية جرت في الشهر نفسه ، ونعرف أن أحزاباً كثيرة شاركت فيها ، وأن حزب حركة النهضة الإسلامية التي يرأسها الشيخ راشد الغنوشي ، قد فاز بالأكثرية من مقاعد البرلمان ، وأصبح من حقه أن يتولى هو تشكيل الحكومة حسب نص الدستور ! ولأن الأغلبية تعني الحصول على نصف عدد مقاعد البرلمان زائد واحد ، فإن ما حصل عليه حزب النهضة ليس أغلبية ولكنه أكثرية .. والمعنى أنه صاحب أكبر كتلة من المقاعد بين الأحزاب الفائزة ، وأن عليه بالتالي التحالف مع أحزاب أخرى ليملك في يده 109 مقاعد ، من بين 2017 مقعداً هي مجمل مقاعد البرلمان ! وقد بدأ الشيخ الغنوشي مشاورات تشكيل الحكومة بالفعل ، منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها هيئة الإنتخابات أن حزبه حصل على الأكثرية ، وأن إجمالي ما حصده من مقاعد هو 51 مقعداً ، في حين حصل حزب قلب تونس ، الذي يرأسه نبيل القروي ، رجل الأعمال والإعلام ، على 38 مقعداً واحتل المركز الثاني ! وكان الشيء اللافت جداً ، أن أحزاباً كثيرة من الأحزاب الفائزة بأنصبة مختلفة في البرلمان الجديد ، رفضت ولا تزال ترفض ، التحالف مع النهضة لتشكيل الحكومة الجديدة ، فكان الشيخ الغنوشي كلما طرق باباً يريد التحالف مع هذا الحزب أو ذاك ، فوجيء بالرفض ليس فقط لوجوده هو على رأس الحكومة المرتقبة ، ولكن لوجود النهضة نفسها في هذه الحكومة ! وهذه مشكلة طبعاً ! فالدستور يمنح الحزب الفائز بالأغلبية حق تشكيل الحكومة الجديدة ، فإذا لم يكن هناك حزب صاحب غالبية ، فالحق يذهب الى الحزب صاحب الأكثرية ، الذي يكون عليه أن يجمع غالبية في يده من أنصبة الأحزاب الحاصلة على عدد من المقاعد ، بأقل مما حصل عليه هو .. وهذا الحزب ليس سوى حزب النهضة ! .. وإذا فشل في تأمين أغلبية فلا حل غير الذهاب الى انتخابات جديدة ! ولم يجد حزب النهضة أمامه سوى طرق باب حزب قلب تونس ، على ما بينهما من مناوشات واسعة دارت في أثناء الإنتخابات وبعدها ، وكان " النهضة " يؤكد دائماً أنه لن يتحالف مع قلب تونس لأن شبهات فساد تدور حول صاحبه القروي ، فضلاً عن إنه حزب ليبرالي ، بينما التوجه في النهضة اسلامي .. فكيف يلتقيان ؟! ولكن السياسة دفعتهما الى أن يلتقيا ، وحولت عداء الأمس الذي كان معلناً بينهما ، الى صداقة أو ما يشبه الصداقة ، فما أعجبها من سياسة !