حلت أوائل ديسمبر الجارى ذكرى رحيل الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، الذى عبر عن كل شىء فى مصر بأشعاره، فحمل بها أحلام الغلابة، وشجاعة المناضلين، ورسم بأبياتها قصص حب أبناء وبنات الحوارى والأزقة والشوارع، وجلد بحروفها المتكبرين والطغاة وناهبى قوت الشعب، حتى صار «فؤادًا» حاويًا لآمال البسطاء، «فاجوميًا» يلعن كل من يقترب نحو أحلامهم ويهددها. «نجم» فى حياته اختص «الصباح» بنشر الجزء الثالث من مذكراته «الفاجومى»، وكان يرسلها -رحمه الله- بانتظام، ودأبت الجريدة على نشرها، وذلك بما حملته من حكايات عن القاهرة، وعالمها السفلى، العاصمة التى حاول أن يتشبث بجلدها عدة مرات، بكل شخوصها الموتى والأحياء، ومتناقضاتها وأفراحها ومعتقلاتها، وأيامها البيض وسنينها السوداء، «نجم» لا يحكى هنا عن نفسه بل يحكى عن وطن بأكمله. وتعيد «الصباح» نشر الجزء الثالث من مذكرات «الفاجومى» على مدار أعداد متتالية تبدأها بالعدد الحالى.. فى المعتقل يا سلام سلم موت واتألم لكن لمين راح تتظلم والكل كلاب؟! كلاب حراسة وكلاب صيد واقفين بالقيد يكتفوا عنتر وأبوزيد ويهينوا دياب الكلب فيهم لا يميز ولا يتميز عن الغوريلا ومطيز وبضفر وناب ومدربينه يدق الكعب على راس الشعب ويحط فينا الخوف والرعب من غير أسباب غير إن شلة حرامية وشمحطية عايشين فى مصر عواطلية وبياكلوا كباب عايزين يعيشوا عرض وطول على كده على طول ع المعتقل يرموه فى الضيق ما يلاقى صديق وإدارة شغلتها التلفيق تكتب له جواب و ع النيابة ومحاكمة وتقوم حاكمة مدام بلدنا بلد بكمة يحيا الكداب لكن يا مصر هييجى اليوم ويطير النوم وكل ظالم أو مظلوم حيكون له حساب دى كانت أول قصيدة اتكتبت فى أول معتقل دخلته فى أول حبسة سياسية حصلت لى فى مصر المحروسة بتاريخ 15 مايو سنة 1969 أتارى خمستاشر مايو ده حدوتة، لأنه سنة 1948 كان يوم ميلاد الدولة الصهيونية على أرض فلسطين العربية بدعم أمريكى مطلق وتواطؤ عالمى وصمت رسمى عربى، ويا شعب العرب «أمك فى العش ولاَّ طارت» ؟ وبعد اعتقال العبد الفقير فى 15 مايو سنة 1969، بييجى خمستاشر مايو سنة 1971، عشان يعلن الثنائى أنور السادات ومحمد حسنين هيكل عن قيام «ثورة التصحيح»، اللى هى عبارة عن انقلاب من داخل السلطة، أطاح بعصابة على صبرى التى تتضمن مجموعة من ضباط القوات المسلحة الذين استوزروا، ومنهم على سبيل المثال محمد فايق وزير الإعلام وشعراوى جمعة. وما أدراك ما شعراوى جمعة، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وأمين التنظيم، وكما قال لنا الأستاذ محمد عودة المفكر والكاتب السياسى الكبير: شعراوى جمعة البديل الوحيد للقائد جمال عبدالناصر ولو بعد عمر طويل. آدى يا سيدى خمستاشر مايو وعمايله لحد وقتنا هذا، ومين يعرف؟ ما هى الجايات أكثر من الرايحات على رأى المثل. وأتارى كمان خطيبتى نعمة بنت أم كريمة سابت كل أيام السنة ونشنت ونشانها رشق فى 15 مايو برضه، وده هو اللى جرّ رجلى على شارع على عبدالعال بالمنيرة تبع إمبابة للاحتفال بعيد ميلاد نعمة فى منزل الأسرة التى يقودها جلال زوج كريمة الشقيقة الكبرى لكل من نعيمة وهانم وسونة، وما تعرفش إيه الحكمة فى أنى أعزم أصدقائى: حجازى الرسام ومحمد اللباد وعلاء الديب كنوع من الفنطزية، وبمجرد وصولى إلى منزل الأسرة سمعت أصوات الضيوف الكرام جاية من غرفة الجلوس، وطبعًا حطيت الأغراض اللى فى إيدى استعدادًا للدخول عليهم كمفاجأة، لقيت جلال بيقوللى: «دا فيه واحد عايزك». بابص لقيت واحد أفندى بيسلم علىَّ باحترام وبيقول: «إحنا تجار من إسكندرية» غريبة.. دى نفس العبارة اللى اتقالت لى فى كمشيش! من شخص يشبه الشخص ده برضه واتضح فى الآخر أنه ضابط أمن دولة. قلت له: أهلًا وسهلًا اتفضلوا. قال لى: لا معلش، هما دقيقتين تحت وترجع. اتأكدت إنه أمن دولة، لكن كان كل همى إن العملية تتم بمنتهى السرية علشان ما أزعجش أصدقائى الضيوف. فنزلت معاه وفوجئت به وإحنا نازلين السلم بيقولى: إحنا اتأكدنا إنك راجل نضالى فقررنا نستضيفك، وبغض النظر عن عدم إلمامه بلغة الحنجورى اللى بتقول مناضل مش «نضالى» إلا أنى عند خروجى من باب المنزل لمحت محمد على بيركبوه اثنين مخبرين فى سيارة بوكس كانت تقف فى آخر شارع على عبدالعال، ما اعرفش بقى كانوا بيخبوه منى ولاَّ كانوا بيورهولى على أساس إنه هو اللى جابهم من حوش آدم لأنه هو الوحيد اللى كان عارف بيت أهل خطيبتى نعمة بنت أم كريمة؟ أنا برضه عملت عبيط وكأنى ما شفتش محمد على واتجهت مع الشخص إلى ناصية شارع على عبدالعال، حيث كان ينتظرنا بوكس بوليس كامل الأوصاف ركبونى فيه مجموعة من المخبرين الصامتين تمامًا ثم انطلقنا إلى المجهول على الأقل بالنسبة لى أنا. معتقل القلعة هو «هيلتون المعتقلات» من وجهة نظر المعتقلين، على الأقل ربما لموقعه فى وسط البلد.. وربما لكونه تابعًا إداريًا لمباحث أمن الدولة العليا.. المهم إن أكل ولبس المعتقلين فى القلعة.. ملكى.. والغداء يأتى يوميًا عن طريق المتعهد، فأنت تفطر بصحن الفول المتين والبيض المسلوق والعيش الملكى اللى ربنا يكرم مقامك عبارة عن رغيف بلدى محترم وبيضتين مسلوقتين وواحد شاى بحليب معتبر وصحن الفول المدمس اللى يشبع عدم المؤاخذة حمار، وفى الغداء رغيفين وصحن طبيخ وصحن رز وحتة لحمة، وفى العشاء بيضتين وحتة جبنة دوبل كريم ورغيف لبابة وشاى بحليب من النوع المتين، وهكذا دواليك. وأما الملابس فهى ملابسك المدنى، وكل برغوت على أد دمه، اللى ماشى بالبيجامة والروب واللى ماشى بالبيجامة حاف واللى ماشى بالجلابية واللى ماشى بالقميص والشورت، وكل برغوت على أد دمه «شوف الديمقراطية». وأما عن المكان فهو عبارة عن أربعة وستين زنزانة وعنبرين كبار كل عنبر منهما عبارة عن جراج من جراجات النقل العام. وقد كان لى شرف سكناها دائمًا «مش عارف ليه» وفى داخل الزنزانة محفور على جدرانها مجموعة من العبارات مثل «وغدًا تشرق شمس العدالة الحمراء على وادينا الأخضر» .. و«نبيل الهلالى الشيوعى» و«يا شغالين يا مسلسلين».. وهى جزء من قصيدتى الشهيرة «جيفارا مات» وقد أسعدتنى عندما قرأتها وقلت فى عقل بالى «ابسط يا فؤاد يا ابن هانم أديك دخلت الخلود برجليك! وبقيت من العظماء». مش عارف الانبساط ليه وخلود إيه وعظماء مين، لكن أدينى كنت باتسلى ومآنس نفسى فى هذه الوحدة والوحشة والضياع اللى مش باين له أول من آخر. معلش حنضطر نخرج عن السياق التاريخى شوية لأن فيه حكاية حازقانى ولازم أقولها فورًا، والحكاية دى لازم تبدأ بالمثل الشعبى البسيط اللى بيقول: «ستى لئيمة وأنا ألأم منها» وصلى على كامل النور. بقى يا سيدى بعد حفلة الاستقبال اللى حنرجع لها بالتفصيل الممل، سكنونى فى زنزانة رقم اتنين اللى هى مواجهة لمكتب الظباط عدل، وهى أيضًا تعتبر رقم واحد فى الزنازين لأن زنزانة رقم واحد كانت مخصصة للدكتور ميشيل طبيب المعتقل، ومن تانى يوم بدأت تحصل حاجة غريبة عبارة عن شخص يفتح علىّ باب الزنزانة ويقول: عايز تبعت جوابات أو أى حاجة بره. أبص للشخص ألاقيه لابس مدنى يعنى معتقل زميل، أول يوم قلت له: لأ شكرًا. راح قافل باب الزنزانة وانصرف. طيب إزاى ده تجاسر وعمل الحركة دى ونسى إن اللى فى مكتب الظباط ممكن يشوفه! ويا ترى هل كان باب مكتب الظباط مفتوحًا! طب مش ممكن يكونوا باعتينه عشان يعرفوا منى أى معلومة، لكن معلومة إيه اللى ممكن ياخدوها منى؟ هو أنا لا سمح الله كنت عامل تنظيمًا سريًا، بل بالعكس ده التنظيم اللى كنا عاملينه أنا والشيخ إمام شرطه الأول هو العلنية والانتشار! قول قعدت آخد وأدى لحد ما كبس علىّ النوم ورحت فى الدغبوبة على رأى أم منى الله يرحمها ويحسن إليها، تانى يوم حضر المذكور و: مش عايز تبعت جوابات برا ولا أى حاجة؟ قلت له: لأ شكرًا. وحاولت أشوف باب مكتب الظباط لكن ابن الحرام كان مدارى الفتحة الصغيرة اللى كان عاملها فى الباب. قال لى: لكن أنت مين بقى؟ قلت له: أنا الشاعر أحمد فؤاد نجم. قال وهو بيضحك: الحمد لله