صنفت الحكومات المتعاقبة «الملف القبطى» باعتباره منطقة شائكة، تخضع للتفاوض أحيانًا، والمساومة غالبًا، مما جعل معظم دعوات تعديل قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين، موصومة بشبهة الصفقات، وتحول كل لقاء يجمع بين ممثلى الحكومة والكنيسة، لمناقشة تعديل القانون، إلى ساحة لمعركة، يسعى كل طرف فيها لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، وكأنهما قطبين متنافسين، وهو المنطق نفسه الذى لجأ إليه عدد من الأقباط فى تفسير تراجع الكنيسة عن مقترحاتها الخاصة بمشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، بعد انتهاء وزارة العدالة الانتقالية من كتابة مسودته الأخيرة. وبحسب مصادر قبطية مطلعة، فإن عددًا من القيادات الكنسية اعتبرت أن الكنيسة رضخت لرغبات مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف، بحذف باب كامل منه، كان يخص «حق التبنى»، كما اعتبروا أن موافقة الكنيسة جاء لصالح احتفاظها بسلطتها الدينية فى ملف الزواج والطلاق، بعدما كانت تلك السلطة مهددة فى مشروعات قوانين أخرى، تميل إلى إقرار الزواج المدنى، مما لقى رفضًا من الكنيسة، باعتبار الزواج أحد الأسرار المقدسة. كانت الكنائس الثلاث، الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والإنجيلية، قدمت مقترحًا بمشروع قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين، إلى وزارة العدالة الانتقالية، فى نهاية العام الماضى، وتولت الوزارة إعداد المسودة النهائية للمشروع، وأرسلتها إلى الكنائس مجددًا، فى مطلع الأسبوع الماضى، لإبداء الرأى فيها، فكانت المفاجأة هى خلو المسودة من باب كامل يخص تنظيم حق التبنى. وأشارت المصادر إلى أن مناقشات عديدة دارت بين الكنيسة الأرثوذكسية ووزارة العدالة الانتقالية والأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، انتهت إلى أن تضمين القانون الجديد لحق التبنى سيثير خلافًا وجدلًا يهدد السلم الاجتماعى، باعتباره يخالف الشريعة الإسلامية، وبالتالى يخالف الدستور، وفقًا لمادته الثانية، مما دفع الكنيسة الأرثوذكسية إلى قبول حذفه من القانون. ومن جهته، أكد رئيس الطائفة الإنجيلية، الدكتور صفوت البياضى، أن «العدالة الانتقالية» رفضت مشروع القانون المقدم من الكنائس، باعتباره مخالفًا للشريعة الإسلامية، والمادة الثانية من الدستور، بسبب حق التبنى، مشددًا على تمسك الكنيسة الإنجيلية بهذا الحق، بوصفه «حق مسيحى أصيل»، على حد قوله، كما أشار إلى أن «حق التبنى لم يرد صراحة فى الكتاب المقدس، كما هو الحال فى باقى مواد قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين». وأوضح أن «هناك العديد من الدول العربية، مثل العراق، والأردن، وسوريا، لديها قانون خاص بالتبنى»، مضيفًا أن «تطبيق قانون التبنى على المسيحيين، لا يعنى تطبيقه على الديانات الأخرى، بمعنى أن القانون لن يسمح بتبنى أسرة مسيحية لطفل مسلم»، وأشار إلى أن «قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين معطل منذ عام 1979، بسبب تضمينه لمادة حق التبنى». وفى سياق متصل، قال رئيس المكتب الإعلامى للكنيسة الإنجيلية، القس رفعت فكرى، إن «التبنى جزء أصيل من المسيحية، لأن الله تبنانا بحسب المفهوم الروحى، وأى أسرة حرمت من الأطفال من حقها أن تتبنى طفلًا»، مشيرًا إلى أن «المادة الثالثة فى الدستور أعطت للأقباط حق الاحتكام إلى شريعتهم، وبالتالى يمكنهم الاستفادة من هذه المادة فى إقرار حق التبنى». وأكد أن «الكنائس أبدت موافقتها على حذف هذا الحق من مشروع قانون الأحوال الشخصية، لرغبتها فى عدم إثارة المشاكل، وبحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية، لكن هذا ليس مبررًا للتنازل عن قناعات وعقيدة، بل على الدولة أن تتقبل حالة الاختلاف بين الإسلام والمسيحية، خاصة أن المسيحية ليس لها تشريع، بل تسير على روح الإنجيل». وفى المقابل، اعتبر مدرس اللاهوت الدفاعى فى الكنيسة الأرثوذكسية، مينا أسعد، أن «من يثيرون قضية التبنى حاليًا، يحاولون توجيه الرأى العام نحو قضية يمكن تأجيلها، بعد الانتهاء من قضايا الوطن الرئيسية»، مؤكدًا أن «التبنى لم يرد ذكره فى الكتاب المقدس كتشريع، بل كوقائع، وذكر 3 مرات فى العهد القديم، و5 مرات فى العهد الجديد». وشدد على أن «قضية التبنى فى التشريع المسيحى ليست قضية سلطوية، تحتكم إلى النص، مثل قضية الطلاق، فالمحبة هى التى تتغلب فى القضايا التى لا تخضع لنص صريح، والتبنى ليس له نص صريح فى الكتاب المقدس»، كما نبه إلى أن «قداسة البابا شنودة الثالث حين سئل عن وجوب التبنى للعاقر، أجاب بأن الموضوع يخضع لقوانين الدولة المصرية، وهى لا تسمح به، فإذا قام أحد بمثل هذا الأمر، سيكون بطريقة خاطئة، ودون أن يعرف نتيجته، وتأثيره، عليه وعلى أسرته، بل على الطفل المتبنى فى المستقبل». ويتفق أستاذ اللاهوت الدفاعى، القمص عبد المسيح بسيط، مع أسعد، قائلًا إن «التبنى بمفهومه كتبنى رجل أو امرأة لطفل، لم ترد فى شأنه نصوص صريحة ومباشرة، لكن من خلال مضمون الإنجيل ذاته، توجد أمثلة، كما فى حالة انسيموس الوثنى، الذى كان عبدًا، وهرب من سيده المسيحى، فتقابل مع القديس بولس، واهتدى إلى المسيحية، وصار ابنًا للقديس». ويخالف مؤسس رابطة «الصرخة للأحوال الشخصية»، إسحق فرنسيس، كلًا من بسيط وأسعد فى الرأى، مؤكدًا «نحن نرفض إلغاء حق التبنى من قانون الأحوال الشخصية، لأنه حق أصيل بموجب المادة الثالثة من الدستور، ونؤكد أننا نرفض الكثير مما تضمنه القانون المقدم من الكنائس إلى وزارة العدالة الانتقالية، مثل الزواج المدنى». وفجر أسقف الجيزة للأقباط الكاثوليك، الأنبا أنطونيوس، مفاجأة بنفيه أن تكون الكنائس المصرية قدمت أى اقتراحات خاصة بقانون الأحوال الشخصية، إلى وزارة العدالة الانتقالية، مؤكدًا «كل ما يثار بهذا الشأن هو من قبيل التكهنات، فالكنيسة الكاثوليكية لم تشارك فى تقديم أى مسودة»، واعتبر أن مسودة القانون التى يجرى الحديث حولها، «غير دقيقة»، على الأقل من جانب الكنيسة الكاثوليكية، كما شدد على أن «الكتاب المقدس لا يوجد فيه ما يسمى بحق التبنى، وكل المفاعيل المدنية الخاصة بالأحوال الشخصية ليس لها أساس فى الكتاب المقدس، وإنما تستقى من القوانين المدنية للدولة». ومن جانبها، قالت المحامية والناشطة الحقوقية أمل جودة، المحاضر فى مجال حماية حقوق الطفل، إن «مصر وقعت على اتفاقية دولية فى عام 1990، تتضمن بنودًا تتعلق بالتبنى، وكان لها تحفظ على هذا البند، وأعتقد أنه تمت إزالة هذا التحفظ، ومن وجهة نظرى فإن نظام التبنى أفضل من نظام الكفالة، لأنه يتيح حياة متكاملة لأطفال حرموا منها، وليس لهم ذنب فى ذلك، لكن الإسلام لديه أسبابه التى تمنع التبنى، منها منع اختلاط الأنساب، والوراثة، وأى شىء يصطدم بالشريعة الإسلامية لا يؤخذ به».