تكتسب الزيارة التي يبدأها اليوم / الجمعة/ الرئيس الصيني الجديد شي جين بينج لروسيا وتستمر حتى 24 مارس الحالي، أهمية خاصة باعتبارها أول محطة خارجية للرئيس الصيني، وكونها تمثل أيضاً محطة جديدة في إطار ترسيخ العلاقات الاستراتيجية بين بكين وموسكو، وتؤسس لبناء عالم متعدد القوى، وتعظيم الآفاق المستقبلية للعلاقات الثنائية في مجالات التجارة والطاقة والاستثمارات والتعاون التقني والصناعي والإنساني. وتشمل أجندة المباحثات بين الرئيس الروسي بوتين والصيني شي جين بينج، عدداً من الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية المهمة، يأتي في مقدمتها، تطور الأوضاع في الشرق الأوسط والأزمة السورية والملف النووي الإيراني والقضية الأفغانية والوضع الأمني في شبه الجزيرة الكورية وشمال شرق آسيا عموما. كما سيوقع الجانبان على عدد من الاتفاقات الثنائية بهدف تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، مع التركيز على تطوير التعاون الروسي الصيني في إطار الأممالمتحدة ومجموعتي العشرين و"بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهادئ. وتنبع الأهمية الخاصة لهذه الزيارة من الأهمية الخاصة لطرفيها الصين وروسيا وعلاقاتهما ومكانتهما في المجتمع الدولي، حيث تعد العلاقات الروسية الصينية واحدة من أهم العلاقات على مستوى النظام الدولى، وذلك نظرا لما تحتله كلتا الدولتين من أهمية كبرى، فكلتاهما عضو فى النادى النووى الدولى، وهما أيضا من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن ولهما حق الفيتو، وهما الأقدر على منازعة الولاياتالمتحدة على قمة النظام الدولى وتنفرد كل منهما بميزات خاصة. فروسيا وريثة الاتحاد السوفيتى التى ورثت عنه إخفاقاته وانهياراته، ولكنها لم ترث عنه مكانته كقوة عظمى، وهى تسعى الآن لاستعادة مكانته المفقودة تلك، ولديها من الإمكانات والقدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية ما يؤهلها لتكون لاعبا فاعلا ومؤثرا فى النظام الدولى فقد استفادت روسيا من تجربة الانهيار السوفيتى وأعادت بناء نفسها من جديد، ولكنها اصطدمت بعالم أحادى القطبية سمته الأساسية الهيمنة الأمريكية، ولكنها تتفق مع الصين على ضرورة سيادة نظام دولى متعدد الأقطاب، سمته الأساسية ديمقراطية العلاقات الدولية. أما الصين، فهى العملاق الصاعد من شرق آسيا المنطلق بقوة نحو قمة النظام الدولى، وهى قوة متنامية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهدفها النهضة والتقدم والوصول إلى مكانة لائقة على المسرح الدولى، وبالتالي كلتا الدولتين لديهما من القوة والقدرة التى تمكنهما كل على حدة من لعب دور أكثر قدرة على مستوى النظام الدولى وفي حقيقة الأمر، فإن العلاقات الصينية الروسية هي علاقات استراتيجية وقائمة على مصالح مشتركة، وفي مختلف المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، ويحكمها مجموعة من المبادئ التي تؤسس دوماً لآفاق أرحب بين الجانبين، وتتعدد وتتنوع هذه المبادئ، ويأتي في مقدمتها: موقف البلدين من السياسة الأميركية ورفضهما لهيمنة قوة واحدة على النظام العالمي في وإدراكاً من واشنطن لذلك، بدأت التوجه نحو آسيا من جديد وفق أطر ومصالح استراتيجية أمريكية في المنطقة، وخاصة مع بداية الولاية الثانية للرئيس أوباما. وكانت كل من بكين وموسكو قد عارضا ومازالا مشروع الدرع المضادة للصواريخ التي تقيمها الولاياتالمتحدة بدعوى حماية أراضيها من هجمات محتملة قد تشنها ما تطلق عليه "الدول المارقة" مثل إيران وكوريا الشمالية. وترى فيها الصين وروسيا تهديداً للأمن العالمي وتجديداً لسباقات التسلح، لذا فهما يدعمان التمسك بمعاهدة الحد من انتشار الاسلحة البالستية الموقعة بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة الأميركية عام 1972 باعتبارها أساس الاستقرار العالمي، واتفاقات الحد من التسلح بصفة عامة. ثاني المبادئ التي تحكم العلاقات الصينية الروسية، يتمثل في التعاون في مجال التقنيات العسكرية حيث تعتبر الصين أكبر سوق للسلاح الروسي، وتستأثر وحدها بأكثر من 40\% من صادرات السلاح الروسي، في حين تشكل الأسلحة الروسية أكثر من 70\% من إجمالي واردات الصين من الأسلحة. ويرى خبراء الأمن العسكري أن روسيا تزود الصين بحوالي 95 في المائة من احتياجاتها العسكرية بما في ذلك غواصات "كيلو كلاس ومدمرات "سوفيرمني-كلاس "، فبعد أحداث حركة ميدان تيانانمين في عام 1989، فرض الاتحاد الأوربي حظراً على بيع الأسلحة للصين، بينما تقدمت روسيا لتملأ الفجوة وتبقى الصين مستهلكاً شغوفاً وتواقاً للتقنيات العسكرية الروسية. وعلى ضوء مبادئ "عدم التحالف وعدم المواجهة وعدم استهداف دول أخرى" عززت الصين وروسيا تعاونهما في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها من المجالات. أما ثالث المبادئ وهو التنسيق الأمني بين البلدين في منطقة آسيا الوسطى بهدف تحجيم نشاط الحركات الاسلامية في المنطقة ومكافحة تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة والتصدي للإرهاب والنزعات الانفصالية، وذلك في إطار مجموعة شنغهاي، التي تضم كازاخستان و طاجيكستان و قيرغيزستان إلى جانب روسيا والصين وتكونت في إبريل 1996 مع توقيع معاهدة أمنية بين الدول الخمس. رابع المبادئ وهي تأكيد عدم تدخل كل طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر واحترام الوحدة والسلامة الإقليمية له. فقد أكدت الصين دوماً على أن قضية الشيشان هي من الشؤون الداخلية التي تتعلق بوحدة الأراضي الروسية. كما التزمت روسيا تفادي إقامة علاقات رسمية مع تايوان، وأعلنت ان التيبت جزء لا يتجزأ من الصين، وبذلك يتفادى البلدان دعم الحركات الانفصالية في كل من بلديهما. في حين يتمثل خامس المبادئ في تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية والنفطية بين البلدين، ويقدر خبراء الاقتصاد حجم التبادل التجاري بين البلدين الآن بمبلغ 80 مليار دولار، بعد أن كان نحو 7 مليارات دولار عام 2000. وتعتبر الصين ثالث أكبر شريك تجاري لروسيا بعد ألمانياوالولاياتالمتحدة. ولا شك في أن الإمكانات المتاحة للبلدين تتيح الفرصة لمضاعفة التبادل التجاري بينهما ولمزيد من التعاون في المجال الاقتصادي. وفي عام 2009 تم أبرام صفقة طاقة صينية روسية والذي تحصل بموجبها شركة "روزنيفت" أكبر شركات البترول الروسية المملوكة للدولة وشركة "ترانس نيفت" الشركة الروسية المملوكة للدولة المتخصصة بأنابيب نقل النفط على 25 بليون دولار أمريكي من بنك التطوير الصيني مقابل تزويد الصين بحوالي ثلاثمائة ألف برميل من النفط يومياَ في الأعوام مابين 2011 و2020، أي مايبلغ مجموعه 2.2 بليون برميل، وسوف يتم تخصيص الأموال الصينية لتساهم في استكمال أنبوب البترول الذي سوف يمر من شرق سيبريا الى المحيط الباسيفيكي مع ذهاب فرع منه الى "داكنج " لخدمة السوق الصينية وسوف يقوم الأنبوب المقترح بزيادة حصة روسيا من مستوردات الصين من البترول الى حوالي 8\% صاعد من نسبة 4\% الحالية. وفي الأول من يناير 2011، بدأ العمل بأول أنبوب للنفط بين روسيا التي تعتبر أكبر منتج للنفط في العالم والصين التي تعتبر أكبر مستهلك للطاقة، ويربط الأنبوب ما بين مصافي نفط في سيبيريا ومدينة داكنج الى الشمال الشرقي من الصين. ومن المتوقع ان ينقل الأنبوب، مائة وعشرة ملايين برميل من النفط الخام في السنة لمدة عشرين سنة قادمة، بعد أن كان في السابق النفط الروسي يصل الى الصين عن طريق السكك الحديدية. ومن هنا يمكن القول أن هذه الزيارة تأتي لتعظيم وترسيخ الأهداف الاستراتيجية للجانبين بصرف النظر عن التطورات التي يمكن أن تشهدها الأوضاع الداخلية في البلدين، وبالتالي فإن هذه الزيارة تعظم التحالف الاقليمي بينهما، حيث تسعى كل من الصين وروسيا إلى تشكيل تحالف إقليمي ليكون صداً في وجه الاختراق الأميركي للمنطقة، خاصة في المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة الإتحاد السوفياتي سابقًا و التي فرط عقدها إثر انهياره. وقد عمدت الدولتان إلى تأسيس بعض المنظمات الإقليمية و تفعيل البعض الآخر لهذا الغرض ومنها، بل وأهمها مجموعة شنغهاي التي تهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول الاعضاء ومناقشة عدد من المواضيع المهمة بشكل دوري وذلك، بهدف إعادة ترسيم الحدود بين جمهوريات ما بعد الإتحاد السوفيتي من جهة، و الصين من جهة أخرى، ومواجهة الأخطار المشتركة وتنسيق الحرب على الإرهاب والنزعة الإنفصالية والتطرف، إضافة للتعاون الاقتصادي، ومواجهة الاضطرابات الداخلية، سواء كانت صحوة إسلامية، كما هو الحال في طاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، أو مواجهات بين المسلمين والأنظمة غير المسلمة مثل روسيا والصين. وعلى الرغم من التقاء المصالح الصينية الروسية في الكثير من النقاط إلا أن هناك العديد من النقاط التي قد تحول دون تطور العلاقات الاستراتيجية الثنائية مستقبلاً أو تعرقل مسيرتها ومنها الآتي: أولاً: إن الصين تشكل قوة صاعدة متزايدة يومًا بعد يوم سواءً من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، فيما يمكن القول أن قوة روسيا ترواح مكانها بعد أن كانت شبه دولة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن جهود بوتين لإعادة القوة لروسيا على الرغم من قوتها وإيجابيتها إلا أنها ينقصها بعض المقومات لتكون في موقع الصين، ومن هنا فإن ضعف روسيا أمام الصين قد يثير حساسية العديد من الفئات الروسية و بالتالي يعرقل أو يوجد العديد من المشاكل في العلاقة مع الصين. ثانياً: مسألة الكثافة السكانية، فالصين تشهد كثافة سكانية عالية، في حين أن الكثافة السكانية الروسية مقارنة بنظيرتها الصينية صغيرة وبالتالي هناك من يرى من أصحاب النزعة القومية الروسية أن هذه المسألة تشكل خطرًا و تهديدًا لروسيا من باب أن الانفجار السكاني الصيني لا بد وأن يدفع الصين في مرحلة من المراحل إلى التمدد الجغرافي فتكون روسيا هي الضحية. ثالثاً: ترى روسيا نفسها على أنها قوة أوروبية في أغلب الأحيان ، فيما يعرف الصينيون أنهم ليسوا كذلك وأن آسيا منطقة نفوذهم الاستراتيجي ونطاقهم الحيوي، وهذا بطبيعة الحال سيحد من تحرك روسيا كقوة في آسيا و لن يكون لها موقع مميز في الوقت نفسه في أوروبا وهو ما سيثير حفيظة الروس على الأغلب و يلقون باللوم على الصينيين. رابعاً: الإعتراض الصيني على دعم روسيا العسكري للهند وتزويدها أحدث التقنيات العسكرية و أنظمة الدفاع خاصة أن الصين ترى بأن بعض القوى الراغبة في عرقلة مسيرتها يريد أن يدعم الهند لتصبح قوة آسيوية موازية للصين وبالتالي يقف في وجهها و يحد من قدراتها، ولا شك أن المسعى الروسي في هذا الاتجاه سيصطدم بالانزعاج الكبير للصينيين. و في كل الأحوال تبقى الزيارة الأولى للرئيس الصيني الجديد شي جين بينج لروسيا خطوة مهمة للعلاقات الصينية الروسية ومطلوبة نحو وضع أسس بناء عالم متعدد القوى وخاصة الآسيوية الصاعدة بقوة على مسرح التطورات العالمية سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، وبعيداً عن الأحادية القطبية التي شكلت معالم النظام العالمي لفترة طويلة.