جاءت الزيارة الأخيرة التى يقوم بها الرئيس السيسى فى الوقت الراهن إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لتفتح الباب مجددا حول علاقة رؤساء مصر بقادة الأبيض على مختلف العصور بدءا من الرئيس جمال عبدالناصر مرورا بالرؤساء أنور السادات وحسنى مبارك ومحمد مرسى وأخيرا الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى يحل ضيفا هذه الأيام على بلاد العم سام فى زيارة هى الأهم له.. علاقة رؤساء مصر بقادة أمريكا شهدت العديد من حالات المد والجذر ففى الوقت الذى شهدت العلاقة بين البلدين حالة عداء شديدة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان هناك حالة من الغرام المتبادل فى عهد الرئيس أنور السادات .. لكن يمكن وصف العلاقة فى عهد مبارك ب "الدبلوماسية" والتى تحولت إلى علاقة مصالح فى عهد الرئيس الإخوانى محمد مرسى لكنها لم تستمر طويلا بعد الإطاحة به وتولى الرئيس السيسى حكم مصر والذى قادت إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما حربا شرسة ضده قبل أن تتبدل هذه العلاقة بعد تربع الرئيس دونالد ترامب على سدة الحكم فى بلاده. اللافت أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يزر أمريكا إطلاقا، كما رفض استغلال أي فرصة لتحسين العلاقات مع واشنطن رغم أن هذا الأمر كلفه كثيرا،لاسيما وأنه انتهى بدعم أمريكا لإسرائيل في حرب النكسة عام 1967. حكم عبد الناصر مصر فترة امتدت منذ عام 1954 إلى عام 1970 ،وخلال هذه الفترة مرت علاقة الثورة والثوار وعلى رأسهم جمال عبد الناصر بالولاياتالمتحدةالامريكية بمنحنيات شديدة التعقيد صعودا وهبوطا، بدأت بدعم البيت الابيض للثورة، وانتهت بانحياز امريكى شامل لاسرائيل ضد العرب جميعا ومصر بالتحديد وعلى رأسها ناصر فمن اللافت أن بداية العلاقات كانت جيدة، حيث أبدا كلا من الطرفين حسن النية تجاه الاخر، فجمال عبد الناصر حاول من جانبه اقامة صداقة مع الامريكان عقب قيام ثورة 1952 مباشرة، وقام بابلاغ الموقف للسفارة الامريكية التى كان لها صلة ما بالضباط الاحرار قبل الثورة، وأرسل على صبرى قائد الاسراب للسفارة الامريكية لطمأنتهم على ارواحهم ومصالحهم، مطالبا بتحييد الجانب الامريكى حتى لا يكون عائقا فى وجههم،وفى المقابل لم يقف الرئيس الامريكى حينها،ترومان موقفا حياديا من الثورة فقط،بل ساندها، معلنا ان امريكا لن تؤيد تدخلا اجنبيا فى مصر لانقاذ الملك.. لكن كان الأمر الوحيد الذي كان يعكر صفو العلاقات هو اعتراف ترومان المباشر بإسرائيل فور اعلان الدولة العبرية عام 1948، فوق التراب الفلسطينى العربى المحتل ما أثار شكوك العرب تجاهه. وفى إطار الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى سابقا، أعلنت أمريكا نيتها النهوض بمصر، بهدف إبعاد موسكو عنها وهو ما بدا فى محاولة واشنطن الضغط على عبد الناصر، لقبول انضمام مصر والدول العربية لحلف الشرق الاوسط تحت اسم "حلف بغداد " لمواجهة الاتحاد السوفييتى العدو الجديد للغرب اثناء الحرب الباردة، لكن الرئيس الراحل كان يرفض مبدأ التحالف مع الغرب او اتفاقيات الدفاع بأى شكل، لانه سيكون نوعا جديدا من الاستعمار، وبالتالى فقد خلق هذا الحلف شعورا سيئا لديه تجاه أمريكا، عندما احس بمحاولاتها للتفرقة بين العرب من اجل السيطرة عليهم، فكان الرد الامريكى سريعا برفض واشنطن امداد مصر بالسلاح، استجابة لطلب رئيس الوزراء البريطانى آنذاك تشرشل، حيث كانت القوات البريطانية لا تزال موجودة بمنطقة القناة والأكثر من ذلك ربطت واشنطن بين المساعدات بإبرام مصر سلاما مع إسرائيل ورفضت تزويد القاهرة بالسلاح، ولم تعطى لعبد الناصر فرصة من الوقت يدرس فيها خريطة النظام العالمى، وموقعه منها، ومدى قبول الشعب العربى لذلك، فكان تقدير عبدالناصر أن إسرائيل ستظل حائلا امام تحسين العلاقات مع أمريكا. وأسرع ناصر بالاتجاه إلى الاتحاد السوفيتي في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة في مايو من عام 1955 ، لاسيما وأنه كان قد ألمح للسفير الأمريكي بنيته لشراء سلاح من الغرب وبعد تجاهل واشنطن عقد صفقة كبيرة مع موسكو، حشد من أجلها الرأي العام العربي كله، وحينما أرادت الولاياتالمتحدة تدارك الأمر ووافقت على تزويده بالسلاح في مقابل إلغاء الصفقة مع الدولة الشيوعية لكن كان صعب على الرئيس الراحل أن يتراجع. كما أخطأ البيت الأبيض خطأ تاريخيا مرة أخرى برفضه مساعدة مصر فى بناء السد العالى، رغم قبول عبد الناصر لكل الشروط الامريكية، لاسيما وأن الرد جاء مهينا للقاهرة حين أعلن السفير الأمريكي أن اقتصاد مصر لا يستطيع تحمل مثل هذا المشروع ليشعر عبد الناصر بالإهانة الشديدة، ويقرر تأميم قناة السويس، حتى أن رىتشارد نيكسون عندما زار مصر فى 1963 مبعوثا للرئيس الأمريكى جون كيندى، ورأى حجم العمل فى السد العالى، قال لعبد الناصر: "لقد رأيت اليوم أفدح خطا ارتكبته أمريكا." فى المقابل لم يستثمر جمال عبد الناصر الدور الامريكى فى إجهاض العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 الذى كان بمثابة شهادة وفاة للامبراطورية البريطانية، وانشغل بمعارضته والتى كان على حق فيها لمشروع أيزنهاور الذى كان يهدف الى عزل مصر، وتحقيق أهداف العدوان الثلاثى بصورة سلمية، دون أن يبدى أية مرونة سياسية، أو جعل الخلاف فى حدوده الضيقة. كذلك لم يستغل عبد الناصر فترة الصداقة والدفء فى العلاقات المصرية الأمريكية فى عهد إدارة كيندى التى قامت على الاحترام والتقدير المتبادل. وبعد وفاة كيندى، بادر عبد الناصر بإعلان عدائه للرئيس الأمريكى جونسون، وهو الأمر الذى كان من أهم أسباب نكسة 1967، حيث ازدادت المشاكل تعقيدا مثل مشكلة اليمن والكونغو ومفاوضات القمح، ووقع حادث إحراق المكتبة الامريكية يوم عيد الشكر الأمريكى على يد الطلبة الكنغوليين فى القاهرة، ثم اسقطت مصر طائرة مدنية، كان يملكها صديق شخصى لجونسون، وكانت فى رحلة من ليبيا للأردن وتعطل جهازها اللاسلكى فلم تستجب لانذارات طائرة ميج مصرية أرسلت لاعتراضها، وعندما رفضت واشنطن امداد مصر بالقمح بسبب ما ردده مسئول أمريكى قائلا: "نحن لا نستسيغ سلوككم"، جاء الرد من جمال عبد الناصر قاسيا وخاليا من أى دبلوماسية حين قال جملته الشهيرة: "فليشرب الأمريكان من البحر، واذا لم يكفهم البحر الأبيض لإرواء غليلهم فليشربوا البحر الاحمر ... ولسنا مستعدين لمناقشة سلوكنا مع أحد أيا كان، وسنقطع لسان من يتقول علينا ... لن نقبل أسلوب قطع الطريق من قبل رعاة البقر". وكانت تلك العبارة المهينة موجهة إلى جونسون شخصيا ، بحكم قدومه من ولاية تكساس المشهورة برعاة البقر، كما رفض عبد الناصر أن يزور جونسون فى 1966، وحتى حين وافق على إرسال السادات ليقابل جونسون فى محاولة لتحسين العلاقات المتدهورة بين البلدين، لم يقابل عرض جونسون بتغليب الدبلوماسية الهادئة والتوقف عن الهجوم العلنى والتجريح الشخصي، واحتواء الخلافات بهدوء، معتمدا على قدرته بتعبئة الجماهير خلفه معنويا فى أوقات الأزمات، ورفض رد المجاملة التى أبداها جونسون وأسرته حين استقبلوا منى عبد الناصر وزوجها فى أمريكا، والرد على الرسالة التى حملها لها،بأنه يريد أن يصبح صديقا لوالدها. وبدأ جونسون فى أعقاب فشل محاولاته للمهادنة مع عبد الناصر بتزويد إسرائيل بالأسلحة المتقدمة ، وفى 1967 ومن أجل أن تقوم إسرائيل باسقاط نظام عبد الناصر، تعهدت أمريكا أن تحافظ على تفوق إسرائيل عسكريا على الدول العربية مجتمعة، كما وعد الأمريكان إسرائيل بأنه فى حالة نشوب حرب لن تقوم أمريكا بالضغط عليها للانسحاب من الأراضى العربية التى تحتلها أثناء القتال مثلما فعل أيزنهاور فى 1956، بل وأن أمريكا لن تسمح حتى بتوجيه اللوم إلى إسرائيل فى الأممالمتحدة، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تستخدم أمريكا الفيتو ضد أى قرار من مجلس الأمن ضد إسرائيل أو حتى يدينها، ولعبت أمريكا دورا هاما فى خداع عبد الناصر قبل الحرب مباشرة، وعقب النكسة اتهم الرئيس المصري الراحل جونسون بالتواطؤ مع دولة الاحتلال فى عدوانها، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا وأمر بترحيل جميع الامريكيين المقيمين فى مصر وقتها.