يحاول أكثر من 3 آلاف شاب مصري الانتحار سنويًا، ويثير هذا التصاعد المقلق للظاهرة تساؤلات عن الدوافع التي تجعل هذا العدد الهائل من الشباب يرغب في التخلص من حياته بأبشع الصور، لتصنف مصر أولى دول المنطقة من حيث عدد محاولات الانتحار. يحاول هذا التحقيق الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذه الظاهرة في أكير بلد عربي. في الصيف.. تشتعل موجة الحر والانتحار معًا في البداية قمنا برصد عدد حالات الانتحار في مصر خلال عام 2014، ليكون مؤشرًا رقميًا دالًا وقطعيًا على يأس الشباب من تحسن أحوالهم حيث شهد شهر يناير حادثتي انتحار، ووقع في فبراير حادث واحد، وفي مارس حالتي انتحار، وفي أبريل وقعت 3 حوادث انتحار، وفي مايو وقع حادثين، ومثلهما في يونيو، وارتفعت إلى 3 حوادث في يوليو، ثم حادثين في أغسطس، ثم تأججت الأزمة وبلغت أفقًا غير مسبوق في شهر سبتمبر بوقوع 12 حالة انتحار، ثم وصلت لأوج اشتعالها في شهر أكتوبر بوقوع 25 حالة انتحار، ثم هدأ وطيسها في نوفمبر بوقوع حادثتين، ومثلهما في ديسمبر من العام نفسه، وبدخول العام 2015 وعلى عكس المتوقع انتكست الظاهرة واشتعلت لتسجل 164 حالة انتحار خلال النصف الأول فقط من العام، بداية من يناير وحتى يونيو 2015 بنسبة 65% من الشباب، و35 من الأطفال وكبار السن، مما يعد كارثة اجتماعية تهدد الكيان المصري وتزلزل أرجاءه. ولمزيد من التفاصيل، رصدنا حوادث العام 2014 التي كان للشباب منها النصيب الأكبر، بما يتجاوز ال90% للوقوف على أسباب إقدام عماد المستقبل وأكثر الفئات تفاؤلاً وإقبالًا على الحياة بالتخلص من حياتهم، حيث بدأ العام بانتحار "محمد عبدالحليم" 49 سنة، عامل، شنقًا بسبب ترك عمله ومروره بضائقه مالية، وألقى شاب، 30 عامًا، نفسه أمام قطار مترو المرج، بسبب أزمة نفسية حادة، وفي حالة شبيهة انتحر "خالد. ع"، 32 سنة، في فبراير تحت عجلات قطار السكك الحديدية بإمبابة، وشهد شهر مارس حادثة غريبة بانتحار موظف من رجال الدولة، حيث أطلق "أحمد بركة"، أمين شرطة بالغربية 3 طلقات نارية على نفسه لمروره بضائقة مالية، كما ألقى شاب نفسه أمام القطار بمحطة المحلة، وفي أبريل تخلصت طالبة بالصف الثالث الثانوي الفني من حياتها بشرب أحد مواد المكياج السامة، لمرورها بأزمة عاطفية، وذبح "عماد أنطون"، 35 سنة، مندوب مبيعات، نفسه بعد طرده من عمله بالإسكندرية، وانتحر "محمد.أ"، طالب بالثانوي الصناعي شنقًا بالشرقية، بسبب سوء معاملة أبيه. واستيقظنا صباح يوم 22 مايو، على صراخ أسرة "أحمد. ع"، 29 سنة، حاصل على بكالويوس حسابات ومعلومات، حيث أطلق النار على نفسه في منزله بالشرقية، لمعاناته من مرض نفسي، وتكرر نفس الحادث مع شاب في الثلاثين من عمره ببورسعيد، وفي الشهر التالي وبدخول امتحانات الثانوية العامة في يونيو 2014 ارتفعت نسبة الانتحار بين الطلاب نتيجة صعوبة الامتحانات، حيث تخلص "مصطفى.خ"، 16 سنة، طالب بالصف الثالث الثانوي، بالشرقية، من حياته شنقًا داخل غرفته، بسبب الامتحانات، وبمجرد ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية، انتحر "أنس.م"، 14 سنة، طالب بالصف الثالث الإعدادي، شنقًا، لحرمانه من الذهاب مع أصدقائه في رحلة لتدني مجموعه. وفي يوليو انتحر عامل يعاني من مرض نفسي داخل منزله بالغربية، ثم تخلصت "عبير. ص"، 38 سنة ممرضة، من حياتها بتناول سم فئران لخلافاتها مع زوجها، أعقبها أطلق محمد مندوه"، 22 سنة، عامل ستائر، النار على نفسه لخلافاته مع والده. وانتهى الشهر بشنق "محمد.و"،21 سنة، عامل، نفسه داخل مزرعة الدواجن التي كان يعمل بها بالشرقية، بسبب ضائقة مالية، وفي أغسطس انتحر عمرو.ح"،40 سنة، بائع متجول بمدينة بني سويف بتناول مادة "التوكسافين" السامة، بسبب تعرضه لظروف مادية صعبة، ثم شنق "يحيى.أ"، 25 سنة، نفسه بالقليوبية، بسبب أزمته النفسية. ومع اشتعال موجة الحر في سبتمبر اشتعلت الأزمة بشكل غير مسبوق وراح 12 شابًا مصرياً ضحية الانتحار، بسبب أزمات نفسية أو مادية، واشتدت المأساة بسقوط 25 شابا مصريا في شهر أكتوبر، وهو رقم قياسي حيث لم تشهد مصر أو المنطقة العربية برمتها مثل هذا العدد من حالات الانتحار من قبل، وفي شهر واحد، وكانت الحادثة الأشهر خلال شهر أكتوبر هي انتحار "فرج"، 48 سنة، مشنوقًا على لوحة إعلانات بطريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، بسبب خلافاته الزوجية، ووقعت حادثتان خلال شهر نوفمبر، أولها للناشطة السياسية زينب المهدي، التي كانت عضوًا بالحملة الرئاسية للدكتور عبدالمنعم الفتوح، حيث تعرضت لأزمة نفسية حادة وإحباط واكتئاب نتيجة شعورها بتلاعب القادة السياسيين بالشباب بعد الثورة، ثم انتحار "أشرف صليب"، 38 سنة، عامل في شركة بالشرقية، لمروره بأزمة مالية، وأغلق شهر ديسمبر العام المظلم بوقوع حالتي انتحار حيث قفزت فتاة تعاني أزمة نفسية من أعلى كوبري قصر النيل، وشنق شاب بالجيزة نفسه لمروره بأزمة نفسية أيضًا. الشباب: الانتحار حرام.. لكنه أكثر رحمة من أزماتنا وباستطلاع رأي 100 شاب وفتاة مصرية حول "الانتحار"، عبر أغلبيتهم بنسبة 93% عن رفضهم لفكرة الانتحار، لأنها حرام شرعًا، مؤكدين أن الانتحار ليس حلاً للمشكلة وإنما نوع من الهروب منها، وهو وسيلة ضعفاء النفس والشخصية، أما المؤمن الحقيقي القوي يرضى بقضاء الله ويحاول التغلب على مشاكله وعدم الوصول لهذه اللحظة من الضعف التي تقوده في غياب من الوعي والعقل لإنهاء حياته بوحشية وقسوة. أما "سعد.أ"، 20 سنة، فكان أحد ضحايا محاولات الانتحار، ويروي لنا أنه حاول مرة التخلص من حياته ولكنه فشل، وأكد أنه يحمد الله أن أنقذه من هذه التجربة القاسية، مضيفًا أنه كان يمر بظروف نفسية صعبة بعد رفض أهله زواجه من الفتاة التي أحبها، فأقدم على شرب سائل سام وتم إنقاذه ولكنه ظل لمدة 5 سنوات، يخضع للعلاج، وأجرى العديد من العمليات نتيجة إصابته باحتراق جزء من أحشائه بهذا السائل، وعبر عن ندمه الشديد لمروره بهذه اللحظة، التي دفع ثمنها لسنوات، ولكنه الآن متزوج من فتاة طيبة أنجبت له طفلاً جميلًا ويمارس حياته بطبيعية. ويرى 7% من الشباب، أنه يمكن اعتبار الانتحار أحيانًا حل، فالظروف القاسية اقتصاديًا واجتماعيًا تجعل الشباب تحت ضغوط كبيرة في ظل الفقر والجهل والبطالة، وهو ما يدفعهم للتفكير فيه، حيث يبدو أحيانًا أكثر رحمة من أزماتهم، ولكنهم في الوقت نفسه يؤكدون أن الانتحار حرام شرعًا، ولكن اليأس قد يلقي بالإنسان في لحظة ما على أعتابه، وربما لا يجد فرصة بعدها للندم إذا نجحت محاولته وتخلص من حياته ليلقى حسابًا شديدًا في آخرته وغضبًا من الله. مصر تحتل مركزًا متقدمًا على القائمة السوداء للانتحار في العالم وفي تعليق للدكتورة أميمة مصطفى، أستاذ علم النفس بكلية التربية النوعية جامعة القاهرة، على تصنيف مصر في المركز رقم 96 عالميًا من حيث عدد الأفراد المقبلين على الانتحار خاصة فئة الشباب، تقول نحن أمام كارثة حقيقية فالعنوسة والبطالة، وضغوط الحياة تدمر فئة الشباب وتصيبهم بالإحباط، مؤكدة أنه إذا أقدم 3 آلاف شخص سنويًا على الانتحار كلهم من الشباب، فإنه بالتأكيد قد خطرت الفكرة السوداء على أذهان أضعاف هذا الرقم، ولكن من امتلك الجرأة على التخلص من حياته بالمواكبة مع قدر كبير من الإحباط واليأس هم 3 آلاف فقط، ينجح منهم الثلث على الأكثر في القضاء على حياتهم، وهو ما حدث عام 2009 والذي شهد أسوأ موجة انتحار شهدتها مصر، حيث انتحر ما يزيد عن 1100 شاب. وعن انتحار الأطفال في مصر في سن 7-15 سنة، تقول أستاذة علم النفس: "المنتحرين من الأطفال لا يشعرون بارتياح في وسطهم، ولا يجدون من يسمعهم ويشعرون أن لا أحد يريدهم أو يحبهم أو يهتم بهم، وربما يلجأ الطفل لتقليد مشهد عنيف شاهده في أحد أفلام "الأكشن" أو "الرعب" وسط غياب رعاية ومراقبة الأسرة. ويؤكد الدكتور سمير نعيم، أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس، أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية وفقًا للإحصائيات خلال السنوات الأخيرة قد تدفع البعض لمحاولة الانتحار، مضيفًا: "ولكنه من المستحيل أن ينتحر المتدين والمتزوج والذي لديه أطفال، لأن الأول يفهم معنى الانتحار وأنه حرام شرعًا، والثاني لديه مسئولية لا يستطيع التخلي عنها والثالث يحتمل كل ظروف الحياة من أجل أولاده، ويضيف أن النساء أكثر ابتعادًا عن فكرة الانتحار، لقدرتهن على تحمل الظروف السيئة والفضفضة مقارنة بالرجال، حيث يعتبر المجتمع الرجل ضعيفًا إن فضفض أو بكى، ولكنها وسائل صحية للتخلص من الضغوط بدلاً من الانفجار والرغبة في الانتحار. ويؤكد السيد ياسين، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أن عدد قوة العمل في مصر يبلغ 27,2 مليون فرد، وتصل نسبة البطالة بينهم 13,4٪، بزيادة تتراوح بين 4-5٪، على مدار السنوات الثلاث الماضية، وهو ما يفسر أحد أسباب اتساع ظاهرة الانتحار، فيما لم نجد حتى الآن برنامجًا أو خطة اقتصادية واضحة لمواجهة أزمة البطالة، باستثناء العمل على تشجيع الاستثمار، فضلاً عن تردي الخدمات الصحية والتعليمية بشكل خاص، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية مما لم يترك أي شبكة أمان للمواطنين الأكثر عوزًا. ويقول إنه على الرغم من تطبيق الحد الأقصى للأجور، إلا أن كثيرًا من "الموظفين المحظوظين" مازالوا يتقاضون الملايين شهريًا، تحت مسميات لا نهائية ابتكرتها البيروقراطية المصرية. ويوضح الدكتور إبراهيم العيسوي، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي أن الانتحار ظاهرة اجتماعية ونفسية منتشرة في كل دول العالم، والأسباب متعددة لكل حالة ولكن في مصر نجد أن حالات الانتحار ترجع إلى انتشار الفقر والبطالة وهو ما يفسر زيادة أعداد المنتحرين بداية من عام 2009. ويشير إلى تقرير منظمة الصحة العالمية في سبتمبر الماضي، بذكرى حلول اليوم العالمي لمنع الانتحار، الذي كشف أنه على الرغم من تقلص حالات الانتحار في مصر مقارنة بدول أجنبية أخرى، إلا أن حالات الانتحار بين الشباب تزداد في مصر، بسبب الأوضاع الاقتصادية والبطالة، وهو ما يعود إلى تفاقم الأزمات المعيشية، حيث فقد الشباب الأمل في تغيير مستوياتهم الاقتصادية والسياسية، وخاصة بعد الثورة التي كان آخر أمل لهم في التغيير المأمول نحو الأفضل.