على مدار اعوام طويلة مضت جسد لنا الإعلام الدولار فى ادوار الصعود والهبوط فقط، ونسج صورة من خلال عناوين رقميه تختصره فى جملة واحده تعزينا في صعود الدولار أو تهنئنا بثبات سعره مستغلين حساسيه المتلقى تجاه هذا الموضوع بل وجسد الإعلام دور البنك المركزي ومحافظه فى ضخ الدولار وتخفيض سعره وسبل السيطره عليه واختزل هذا التركيز لمؤسسة بهذا الحجم لها سياسة حاكمة مثل السياسة النقدية في مجرد سعر الصرف أمام سلة العملة الأجنبية الرئيسية. بمرور السنوات أصبح الوجدان الجمعي للمواطن المصري على قناعة بأن الأهم هو ثبات سعر الدولار، وأن تعويم الجنيه مصطلح سيء، وأن ضخ الدولار في السوق مع ضمان عدم نفاذ خزينه الدوله هو الدور الوحيد للبنك المركزي. ولكن فى الآونه الاخيره تعرض سوق الصرف لحاله من الشلل والتجمد نتيجه لتطبيق سياسات نقدية وصفت بالضبابية نجحت في كبح جماح الارتفاع المضطرد في سعر الدولار والقضاء على السوق السوداء التي نشأت في البداية نتيجة لجوء البنك المركزي إلى سياسة العطاءات الدولارية بدلا من الضخ لتغطية احتياجات البنوك مما أدى إلى فجوة بين المعروض والمطلوب من الدولار سارع المستوردون والمضاربون إلى ملئها من المعروض في السوق مما أدى لبداية رحلة ارتفاع سعر الدولار والتي تزامنت مع "تحريك" البنك المركزي لسعر الدولار عطاءً بعد عطاء. كان التوجه السياسي للدولة بعد ذلك هو ضرورة القضاء على السوق السوداء بأي ثمن نتيجة لما سببته من علامات استفهام حول الاقتصاد واستقراره حيث كان يتم تداول الدولار بثلاث أو أربع أسعار في اليوم الواحد. ولكن الدولة بدلاً من أن تلجأ للحل الطبيعي وهو تعديل آلية العطاءات الدولارية وجدولة السلع المستوردة من حيث توفير العملة الأجنبية لجأت لحل أكثر ضراوة بشل المفاصل الرئيسية لحركة الدولار داخل السوق وتقييد الإيداعات للأفراد والشركات مع منع التحويل بين الحسابات الشخصية وحسابات الشركات مع منع تغطية الاعتمادات الا من خلال البنوك وليس من خلال دولارات مبتاعة من السوق. ومن القطاعات الحيوية التي تأثرت بشدة من هذه السياسات قطاع الطباعة والتعبئة والتغليف ، و يقول المهندس خالد عبدالرحمن أبو الحسن ، العضو المنتدب لأحد كبريات الشركات المستوردة لخامات الورق من الخارج والمتتضررة من عرقله تداول الدولار ، أن العناوين هنا وفي أي اقتصاد في العالم لابد وأن تتحدث عن مخاطر الانكماش، وفقدان الوظائف، ونقص السيولة، والخسائر الدولارية الناجمة عن نقص التصدير، وهروب الاستثمار الأجنبي لعدم تهيئة المناخ الجيد له ؛ وليس الحديث عن تنامي الاحتياطي النقدي الذي يعلم الجميع أنه يزيد بفعل ودائع خليجية جاءت لتحفيز الاقتصاد المصري وليس لكنزها وإدخاله في مرحلة الركود. ويضيف المهندس خالد عبدالرحمن ، في مارس الماضي وأثناء المؤتمر الإقتصادي قامت شركتنا بعقد اتفاقية تعاون مع حلفاء اوروبيين لأول مرة في مصر ، نحسبها خطوة هامة ورائدة لإمداد السوق المصري باحتياجاته من الخامات النوعية التي من شأنها تحسين اقتصاديات التشغيل في هذا القطاع الهام الذي يخدم مختلف الصناعات ، لكننا كجانب مصري تعثرنا في الوفاء بالتزاماتنا عند استحقاق السداد نتيجة عدم قدرة البنوك علي توفير العملة اللازمة لتغطيه الفواتير المطلوبة رغم وجود فائض في السيولة النقدية بالجنيه اللازمة لتغطية الدولار ، وقمنا بدفع مبالغ طائلة في غرامات وارضيات علي البضائع في الموانئ ليس لنا ذنب فيها نتيجة الصعوبة البالغة في تدبير العملة اللازمة لها ، إن عدم الالتزام أمام الموردين الخارجيين هو أحد المشاكل التي لها أثارها السيئة على سمعة الشركات المصرية وفقد الثقة في التعامل معها مع أمام الموردين الخارجيين ، كما أن ضياع تاريخ هذه الشركات في التعاملات الدولية يمثل تهديد مباشر للصناعة عموما من تأخيرات لمستلزمات الانتاج والمواد الخام الأمر سوف يتحول لمشكلة دوليه كبيرة ، وبالفعل بدأت بعض الشركات تسلك الطرق القانونية ورفع الدعاوى على البنوك المتأخرة عليها في التدبير والبنك المركزي لتضررها من توزيع الاعتمادات ، هذا مايخص سمعة الشركات المصرية خارجيا . ناهيك عن عدم قدرة تلك الشركات علي تنفيذ التعاقدات الداخلية وخاصة مع الشركات العالمية في مصر وما لها من تبعات قد تؤثر علي استمرار تواجد هذه الشركات العالمية في السوق المصري لعدم قدرة شركاؤهم من الموردين المحليين علي الالتزام معهم ، مما يقلل من فرص الاستثمار القادمة لعدم توافر المناخ المناسب له نتيجة هذه القيود. وطالب خالد عبدالرحمن بضرورة خلق آليه جديده تقوم على تنظيم البنك المركزى لعمليات الاستيراد ومراقبه آداء الشركات وإعادة تقييم مدى حيوية السلع المستورده أو الخامات ومكونات الانتاج وتقسيمها الى فئات؛ ولنفرض ان الفئه (أ) تشمل السلع الأساسية كالقمح, الادويه, وغيرها. وفئه (ب) للسلع الرأسمالية ومكونات الانتاج والخامات، والفئة (ج) للسلع الاستهلاكية الرئيسية كالأجهزة الالكترونية وغيرها وفئات أخرى وصولا إلى الكماليات وهكذا.... هذا مع اعطاء البنك المركزى الأحقيه فى فرض قيود على السحب والتحويل للاعتمادات من الفئات الأقل والتي تستنزف كميات من الدولار مما يعطيه القدرة على تنظيم العملية الاستيرادية ، لأن غياب آليات التحكم في الاستيراد وعدم إعطاء أفضلية للسلع الرأسمالية ومستلزمات الانتاج المختلفة أدى إلى نشوء طابور طويل يمتد لشهور من المستثمرين والمستوردين الذين يبدأون بمستوردي الخامات ومكونات الصناعات المختلفة وينتهون بمستوردي اللبان والفوانيس بدون تفرقة أو تنظيم خوفا من مخالفة اتفاقية الجات التي تمنع حظورات الاستيراد ولكنها بالتأكيد لا تنظم أولوية الحصول على الاعتمادات. واختتم خالد عبدالرحمن كلامه مؤكدا ضرورة وجود آليه تسعى لعوده المرونه لسوق الصرف والاستيراد وتمكين البنك المركزى من توفير الاعتمادات الخاصه باستيراد الخامات ومكونات التصنيع واعاده التصدير مع السيطرة على الاستيراد غير المسئول والقضاء على الجمود الذي يهدد الاقتصاد بالشلل والانكماش. هذا وطالعتنا الأخبار بهجوم من اتحاد الصناعات المصرية، على السياسة النقدية للبنك المركزي، وتأكيده بأنه لن يتراجع عن سياسته النقدية والتضحية بالاحتياطي النقدي، قائلين أنه يعمل بشكل منفصل عن واقع حال الاقتصاد المصري مؤكدين أن الصناعة المصرية تعاني منذ تطبيق السياسة النقدية الأخيرة من عدم القدرة على استيراد الخامات اللازمة للإنتاج، ما انعكس على انخفاض الصادرات الصناعية بنسبة 28%، في المتوسط ترتفع إلى 40% في بعض القطاعات الصناعية، الأمر الذي اضطر العديد من المصانع إلى تخفيض طاقتها التشغيلية لأكثر من النصف، ما يدخل الاقتصاد في حالة شديدة من الانكماش. ونشرت شكاوى أيضاً من مصانع لديها شحنات تقف منتظرة الإفراج الجمركي في الموانيء المصرية حاليا لم تدبر لها البنوك العملة ولا تسمح لها بتغطية قيمتها بالتحويل من حسابها الشخصي، وشكاوى أخرى لمصانع من بينها مصانع لقطاع الأعمال، تعاني من صعوبة التصدير إلى أكبر أسواق الصادرات المصرية إلى -العراق وليبيا واليمن- والتي تعاني بسبب المخاطر الأمنية حاليا وسوء التحويلات إلى اضطرار المستوردين القدوم إلى مصر لإتمام بعض الصفقات شخصيا، ليفاجئوا بقرارات تقييد الإيداع بواقع 50 ألف دولار شهريا وما يترتب عليها من إلزام المستورد بالبقاء في مصر لمدة 6 شهور لحين تغطية شحنة بقيمة 300 ألف دولار فقط، وهو أمر في منتهي الصعوبة على المستورد وعلي الشركة المصرية التي لا يمكن أن تتحمل مسئولية شحن البضاعة دون الاطمئنان إلى تسديد قيمتها أي أن السياسة النقدية مرة أخرى أثبتت جمودها أمام المتغيرات الخاصة للسوق المصري والعربي. الشيء الأكثر خطورة هنا هو أن معظم هذه "القيود" النقدية التي تطبق بالبنوك بخلاف تحديد كميات السحب والإيداع من الدولار تقف عند التعليمات الشفهية التي تنفذها البنوك بلا سند، فكانت النتيجة أن فهم المستثمرون الأجانب تعليمات السحب والإيداع على أنها تعليمات لتقييد حركة خروج النقد الأجنبي من مصر، ولذا سارعوا بالخروج من البورصة - ولازالوا - فتسببوا في انهيارها كما قالت مؤسسة أرنست ويانج العالمية. النتيجة النهائية لكل ما سبق ذكره هو أن الاقتصاد القائم على العرض والطلب تحرك من نقطة الطلب على العملة إلى الطلب على السلعة نفسها مما أدى لارتفاع جنوني في الأسعار، ومع اقتراب شهر رمضان المشهور بالاحتياجات الغذائية وغيرها ظهر ثبات غريب لسعر الدولار مع ارتفاع مضطرد في أسعار السلع نفسها. السبب الواضح هو النقص الحاد في تغذية السوق نتيجة لشلل في سوق العملة مما ينبئ برمضان أقل حركة بكثير من الناحية التجارية وأقل استهلاكا للسلع المستورة مما سينعكس سلبا على القطاعات التجارية التي تعتمد على هذا الموسم الهام.