إنه التاريخ الذي يدور بسرعة مذهلة، فقبل شهور قليلة كان أوباما يعلن تحدي مصر ويسعي بكل الوسائل لكي يفرض كلمة الولاياتالمتحدة علي أرض الفراعنة، ولكن المتغيرات المتلاحقة التي كشفت للرئيس الأمريكي أن مصر أكبر من التحدي وصلت أخيراً إلي المحطة الأخيرة، فالزيارة التي سيقوم بها أوباما إلي المملكة العربية السعودية قريباً والتي من المنتظر أن يزور خلالها عدداً من دول الخليج سوف تكشف عن مفاجآت أخري عديدة يتم التجهيز لها علي أعلي مستوي، حيث تجري أطرافاً عدة محاولات لإقناع الفريق السيسي بلقاء أوباما مؤكدين أن الرئيس الأمريكي لم يأت المنطقة إلا لتحقيق هذا الهدف بعد أن كشفت له المتغيرات الأخيرة أن موقفه كان خاطئاً وأن الدولة المصرية تسير في خريطتها بصرف النظر عن موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية، بل إن مصر وخلال شهور قليلة نجحت في تحويل استراتيجيتها بعد الزيارة التاريخية التي قام بها المشير السيسي إلي روسيا. أوباما الذي يخجل من مواقفه السابقة تجاه مصر لن يطلب بشكل مباشر لقاء المشير السيسي لكنه يسعي عبر وساطات خليجية إلي لقاء مع الجنرال المصري الذي أجهده كثيراً، فقد اضطر أوباما مراراً إلي التراجع عن مواقفه المتشددة تجاه مصر تحت ضغوط معلنة من الكونجرس والبنتاجون، ولعل الزيارات المتتالية التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي للقاهرة وعقب الاحتقان الأمريكي المصري أثبتت لأوباما أن الدولة المصرية أكبر من الضغوط وأن موقف الرئيس الأمريكي من التيارات الدينية ومساندته لها يعتبر موقفا شخصيا وليس توجها للولايات المتحدةالأمريكية. لابد أن نتوقف هنا عند جلستي الاستماع اللتين عقدتهما لجنتا القوات المسلحة بمجلسي الشيوخ والنواب بالكونجرس الأمريكي لمجموعة من القادة العسكريين بوزارة الدفاع "البنتاجون" فهما أكبر دليل علي هزيمة أوباما أمام تحدي الدولة المصرية، الجلستان ضمتا: الجنرال لويدأوستن، قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي، والجنرال ديفيد رودريجيز، قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا، والأدميرال البحري صامويل لوكلير، قائد القيادة الأمريكية في المحيط الهادئ، وترأس جلسة مجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي كارل ليفين، أما جلسة مجلس النواب فترأسها النائب الجمهوري هوارد مكيون. شهدت الجلستان طرح مجموعة أسئلة مهمة من أعضاء الكونجرس، كانت أبرزها عن الوضع في مصر وعن العلاقات العسكرية بين واشنطن والقاهرة، وأبدي القادة العسكريون الأمريكيون تفهماً لخطورة الموقف في مصر، والأزمة التي تشهدها العلاقة بين البلدين، وأهمية الحفاظ علي العلاقات المشتركة خاصة فيما يتعلق بالتعاون العسكري، والتخوف من زيادة قوة العلاقة بين الجيشين المصري والروسي. طرح السيناتور الجمهوري جيمس إنهوف، خلال جلسة الاستماع واحداً من أكثر الأسئلة إثارة للجدل في واشنطن، وهو: "هل يحارب الجيش المصري الإرهاب أم لا"؟! وأضاف إنهوف موجهاً حديثه إلي الجنرال أوستين قائلا: "إن الجيش المصري منخرط في معركة صعبة لمكافحة الإرهاب في سيناء، وأريد أن أعرف هل تتفق معي في أن جهود المصريين زادت بشكل ملحوظ في سيناء، وأن المعركة ضد المتطرفين هناك أمر مهم لأمن مصر؟!". رد الجنرال أوستن بأنه يتفق تماماً، وأيضاً يؤمن بأن معركة الجيش المصري ضد الإرهاب ليست مهمة فقط بالنسبة لمصر، ولكن لمنطقة الشرق الأوسط ككل، وعليه أبدي إنهوف دهشته من قرار إدارة الرئيس أوباما بوقف تسليم مروحيات الأباتشي إلي الجيش المصري، وأضاف: "أريد أن أعرف من وجهة نظرك العسكرية، هل يجب استئناف تسليم طائرات الأباتشي للمصريين لمساعدتهم في جهود محاربة الإرهاب؟". وكان رد الجنرال أوستن: "سيدي السيناتور، بالتأكيد أدعم سياسة الرئيس أوباما، ولكن من وجهة نظر عسكرية، وبعد النظر فيما يفعله المصريون في سيناء والمعدات التي يستخدمونها، فبالتأكيد مروحيات الأباتشي مفيدة جداً لجهودهم هناك". وأمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، طرح أعضاء الكونجرس عدة أسئلة مشابهة علي الجنرال أوستن والقادة العسكريين الذين صاحبوه للإدلاء بشهادتهم، وأكد قائد القيادة المركزية الأمريكية علي أهمية العلاقات العسكرية المشتركة بين بلاده والجيش المصري، وقال رداً علي سؤال للنائب بول كووك: "المصريون لديهم معركة في سيناء ولها متطلبات عسكرية"، وأضاف قائلاً: "من الناحية العسكرية فالجيش المصري يمثل شريكا عظيما، ويجب علينا دعمه وأن نحافظ علي علاقتنا به". إن تلك الجلسات وما سبقها من زيارات لوزير الدفاع خلال الشهور الماضية تأتي في سياق التخوفات الأمريكية من تغير الخريطة العالمية بالتقارب المصري-الروسي مما ينبئ بتراجع كبير للولايات المتحدةالأمريكية التي شعرت أن مصالحها في العالم العربي تأثرت بشكل كبير بموقف أوباما من مصر عقب ثورة يونيو، فقد قرر المشير عبدالفتاح السيسي ومنذ اللحظة الأولي لثورة يونيو ومع محاولات الضغط الأمريكي تغيير قواعد اللعبة بحيث تصبح المعونة عنصر ضغط في الاتجاه العكسي، فبينما كانت المعونة العسكرية الأمريكية عنصر ضغط علي كل الإدارات المصرية السابقة نجح السيسي حاليا في جعلها عنصر ضغط علي الإدارة الأمريكية مع تسريب أنباء عن صفقات سلاح روسية لمصر ومباحثات سرية مع الصين حول تصنيع بعض قطع الغيار التي يحتاجها الجيش المصري لصيانة المعدات الأمريكية في نفس الوقت الذي طور فيه السيسي خلال العام الجاري عددا من المصانع الحربية المصرية للقيام بتصنيع قطع الغيار تلك دون النظر إلي موافقة أمريكا من عدمه. ولعل التحركات العربية سواء في مساندة مصر وإرسال المساعدات أو فيما حدث مؤخراً من إدراج جماعة الإخوان في المملكة العربية السعودية علي قوائم الإرهاب دفعت القادة في الجيش الأمريكي إلي حالة الطوارئ التي كشفت عنها الجلسات الأخيرة وما سوف يتبعها من جلسات تسعي إلي وجود صيغة لعقد لقاء بين أوباما والمشير السيسي خلال الزيارة المنتظرة للرئيس الأمريكي. وبشكل عام وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر علي ثورة يونيو نكتشف أن أوباما كان وحيداً تقريباًً في موقفه من مصر فقد شنت الصحف الأمريكية هجوما عنيفاً ضده، ولم تتوقف صحيفة «وول ستريت» للحظة عن تحذير الرئيس الأمريكي من مغبة انتصاره للإسلاميين في مصر وحذرت كثيرا من أن الوضع الخاص لمصر التي يمر جزء كبير من بترول العالم عبر قناتها يجعل منها متحكماً فعلياً في أسعار البترول فأي اضطراب يحدث فيها أو علي ضفاف القناة يرفع أسعار البترول بالتوازي مع حالة الفوضي في مصر لكن تحذيراتها الأخيرة تحولت إلي لوم واتهام لأوباما بعد كلمة العاهل السعودي التي انحاز فيها تماما للجانب المصري وهو ما ظهر جليا علي توقعات العقود الآجلة للبترول والتي يتوقع سماسرة البورصة أن تتجاوز المائة وعشرة دولارات للبرميل بزيادة قدرها أكثر من أربعة دولارات عن السعر السائد خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. وسخرت «وول ستريت» من أوباما عندما قالت إنه يهدد المصريين بمنع المعونة الأمريكية لمصر بينما هو فعليا يمنع المعونة المصرية لشركات السلاح الأمريكية في امتداد لنظرته الاقتصادية التي تؤثر سلبا علي حالة الاقتصاد الأمريكي. وزادت «وول ستريت» من سخريتها وهي تقول إنه يبدو أن أوباما قد تحول إلي كنز بالنسبة للخليج فقد تسبب في زيادة سعر منتجهم الوحيد وهو البترول عدة مرات خلال أقل من شهر وتسبب في ضرر بالغ للاقتصاد الأمريكي وحتي عندما حاول السيطرة علي حالة السعر المرتفع للبترول فإنه دفع بشركات النفط الأمريكية لبيع بترولها بصورة مطردة في محاولة للسيطرة علي الأسعار لكنه أضاف عبئا جديدا اليوم عندما استفز المصريين ومن بعدهم السعوديين وهم من يقود الدول الخليجية في النهاية. وقالت «وول ستريت» إن أوباما علي ما يبدو يصر علي عدم إكمال فترته الرئاسية فهو يضحي حتي بالاقتصاد الأمريكي لإنقاذ تحالفه غير المبرر مع الإسلاميين في الشرق الأوسط. وأخيراً.. لابد أن نتوقف طويلا أمام ما ذكرته صحيفة "وورلد تريبيون"، عن أن وكالة المخابرات المركزية "سي آي إيه"، ووزارة الخارجية الأمريكية، أخطأتا في تقاريرهما عن الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وكانتا علي قناعة بأن السنوات التي قضاها في الدراسة بالولاياتالمتحدة ستجعله أكثر تعاونا مع واشنطن من سابقيه. ونقلت عن مسئول أمريكي قوله: "السيسي" لم يبد مهتما بالمطالب الأمريكية، وردوده علينا كانت أكثر خشونة بكثير من مرسي ومبارك، والأكثر أنه استغل معرفته واتصالاته الواسعة في واشنطن لمقاومة الضغوط الأمريكية عليه، معلقا "هو رجل يعرف نقاط ضعفنا". وقال مسئول آخر للصحيفة إن "السيسي" تجاهل كل مناشدات الإدارة الأمريكية وتهديداتها لمنع الإطاحة بمرسي، ثم التوقف عن ملاحقة قادة الجماعة، وقال مسئول آخر للصحيفة إن "السيسي" أبلغ واشنطن أنه لن يتساهل مع أي محاولة للتدخل الأمريكي في بلاده. وأخيراً.. هل سيقبل المشير السيسي الوساطات التي ستبدأ عملها قريباًً لعقد لقاء بينه وبين أوباما؟!.. وهل ستعيد مصر علاقاتها مع أمريكا وفق هذا اللقاء؟! الأيام المقبلة ستجيب عن تلك الأسئلة وإن كانت ستكشف أن مصر دولة كبيرة وأن القوة والإرادة كانت كفيلة بكسر شوكة أمريكا وغرور رئيسها الذي ظن أن مصر ستركع مجدداً.