لم يقتصر الجدل حول ترشح الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع والإنتاج الحربي لموقع الرئاسة من عدمه علي الداخل فقط حيث هناك المئات من الكتاب الغربيين الذين يضعون موقف الرجل نصب أعينهم ويراقبون بكثب مايدور علي الساحة المصرية انتظارا لما ستسفر عنه الأيام المقبلة, ومؤخرا حاول الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي ناثان براون علي صفحات جريدة "فورين بوليسي" أن يقرأ الواقع المصري بطريقة تتسم بالحياد النسبي والعمق بعيدا عن التأثيرات التي يتعرض لها المحللون المصريون من وسائل الإعلام وأحاديث الصالونات وهمسات كل مدع باحتكار الحقيقة المطلقة. ويري براون أن المهتمين بمتابعة نتائج أعمال لجنة الخمسين الخاصة بصياغة دستور مصر الجديد، يعتمدون علي ما يتوافر لهم من مجموعة متنوّعة من المصادر، فهناك المصادر الرسمية وغير الرسمية، وهناك مصدر آخر متمثّل في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر»، لكن في كل تلك المصادر لم يتم التطرّق إلي الكلمة الأكثر أهمية التي ستحكم النظام الدستوري المصري في المستقبل؛ ومن الواضح أيضا أنه لن يتم تضمين تلك الكلمة في النص النهائي المقرّر عرضه للنقاش المجتمعي الشهر المقبل؛ تلك الكلمة المصيرية التي تتعلق بالفريق عبدالفتاح السيسي، ومسألة ترشّحه لرئاسة مصر. ويوضح براون أن هذا الغموض لايقلّل من أهمية القضايا الأخري التي تجري مناقشتها في لجنة الخمسين، فالمسائل التي يدور حولها الكثير من الاختلاف مثل هوية ودور الدين والدولة والموقف من الجيش، والنظام الانتخابي للبرلمان، ووجود أو إلغاء مجلس الشوري، والهياكل القضائية والكثير من الأمور الأخري المهمّة؛ وفي أفضل الأحوال، لن تؤثّر البنود الأكثر حداثة وإحكاما في الدستور إلا ببطء شديد، وبما أن الإطار القانوني وهياكل الدولة في مصر "استبدادية تماماً" في شكلها وأساليب عملها الأساسية، فلن يتغيّر شيء بين عشية وضحاها. ويري براون أن هناك تناقضا واضحا بين النصوص الدستورية الجديدة والواقع المصري الفعلي، ففي حين طالب أعضاء لجنة الخمسين بتحرير وسائل الإعلام من قبضة وقيود الدولة، إلا أن المحطات الفضائية الإسلامية لاتزال مغلقة؛ وبينما هم يتشاورون للوصول إلي رأي حاسم بشأن الحريات السياسية، لاتزال هناك أحزاب سياسية متوقفة عن العمل ولا تحتفظ إلا بهيكل خارجي من الوجود القانوني. لكن رغم هذا يؤكد براون أن هذه الاعتراضات والتناقضات لا تعني أن صياغة الدستور الجديد ليست مهمة، لكن الواقع يقول إنه حتي في حال اتفاق أعضاء الخمسين علي المبادئ العامة، وهو ما لم يحدث حتي الآن، وتمكّنوا من تنظيم هذا الاتفاق، ستبقي هناك الكثير من النقاط القانونية والمؤسّسية الرئيسية التي يجب مناقشتها بشأن الإطار الدستوري الأساسي لمصر. ويعود الكاتب الأمريكي ليشدد علي أنه حتي لو بدأت تلك العملية الدستورية في الانتهاء واتخاذ شكل وملامح ترضي معظم الأعضاء، فإن الأسئلة الجوهرية فيما يتعلق ببنية ونظام الدولة تعتمد علي قرار شخص معين ليس موجوداً حتي في غرفة صياغة ذلك الدستور الجديد فإذا ماقرّر السيسي خوض انتخابات الرئاسة، فإن أي وثيقة تصدر عن اللجنة ستعمل علي إنعاش وحتي تقوّية مؤسسة الرئاسة التي تهيمن علي الدولة المصرية منذ أكثر من نصف قرن أما إذا لم يترشّح وزير الدفاع، فستعمل المؤسسات الرئيسية للدولة المصرية بطريقة أكثر حرية ولامركزية، وفي العموم، لا نتوقع لأي من المسارين أن يكون ديمقراطياً بصورة حقيقية أو مختلفة كثيرا عما سبق. ويطرح براون السيناريو الآخر إذا لم يصبح السيسي رئيساً ولم يبد رغبته في الترشح للرئاسة، فمن المرجّح أن يؤول منصب الرئيس إلي شخصية مدنية، إما أن تنحصر في شخص من المجموعة الضئيلة من النخبة السياسية أو حتي شخصية عامة بارزة، وهنا تتجلي صعوبة المهمة التي سيواجهها الرئيس الجديد، فعلي سبيل المثال عندما شغل محمد مرسي منصب الرئاسة في ظل حراك اجتماعي كبير ووجود حزب سياسي يدعمه، لم يتمكّن من جعل مقاليد السلطة تعمل بطريقة فعّالة، ومن المرجّح أن يواجه الرئيس المُنتخَب القادم مشكلة مماثلة، فقد استغلّت مؤسّسات الدولة المختلفة فترة ما بعد العام 2011 كي تستحوذ لنفسها علي قدر أكبر من الاستقلالية، ويسعي بعضها جاهداً لكي يضمن أن تتم حماية هذه الاستقلالية في نصوص الدستور، وأبرز هذه المؤسسات الجيش والقضاء والأزهر، وأيضاً، وإن كان بدرجة أقلّ، اتحاد العمال والنقابات وحتي الصحف القومية المملوكة للدولة، وفي نفس الوقت لم تظهر المؤسّسات التي لاتحصل علي ضمانات دستورية محددة مثل أجهزة الأمن والاستخبارات سوي قدرا ضئيلا من الميل للخضوع إلي أي نوع من الرقابة السياسية في المستقبل. ويشير براون إلي أن مثل هذا النظام الدستوري سوف يكون كارثيا، ففي حال جري تحصين وتوفير الحماية لقدر كبير من أنشطة الدولة، عندها سيتم تهميش السياسة والمنظمات والحركات والأحزاب التي تملأ المجتمعين السياسي والمدني إلي حدّ بعيد؛ ولن يترك اتّساع حجم الدولة مجالاً كبيراً للشعب؛ فقد وضع سقوط مبارك حدا لقبضة الرئاسة علي جميع مؤسّسات الدولة كما هو الحال في الدول الشمولية، وليس من المرجّح أن يتمكّن أي رئيس مدني غير مدعوم بالولاء المطلق من الأجهزة الأمنية والعسكرية من إعادة الوضع إلي ما كان عليه. لكن يعود براون ليؤكد أن الأمور قد تكون مختلفة تماماً إذا ما شغل وزير الدفاع منصب الرئاسة، فلن تعود المؤسّسة العسكرية معزولة في ظل وجود شخصية من صفوفها ويدين الجيش لها بالولاء علي رأس السلطة؛ وبالنسبة للأجهزة الأمنية التي عملت علي إضعاف الرئيس المخلوع محمد مرسي، فمن المرجّح لها أن تتصرّف وفقاً للقوانين إذا كان هناك رئيس قوي من الجيش. وربما تؤدّي شعبية "السيسي" وتحقيقه فوزاً ساحقاً في الانتخابات، إلي تخويف البرلمان ومعظم الأحزاب السياسية المدنية، حيث لاتظهر هذه الجهات الفاعلة شجاعتها إلا بشأن المسائل التي لم يتحدّث وزير الدفاع عنها بوضوح وفي هذه الحالة سيتم حكم مصر مرة أخري من جانب مؤسّسة الرئاسة منفردة؛ لكن بلاشكّ سيكون هذا الوضع مختلفاً عن الحقبة الناصرية التي عمل فيها جهاز أمني عديم الرحمة وحزب سياسي واحد علي ضمان الهيمنة الشاملة للرئيس، أو حتي عن فترة رئاسة مبارك التي أمكن فيها للحزب الوطني ذي التفكير المتبلّد أن ينتج أغلبية موالية تخضع للإرادة الرئاسية ليتم لها الهيمنة علي غيرها من المؤسّسات من خلال التملّق والنفاق والتحييد وأيضا من خلال الترهيب والتخويف. ويؤكد براون أنه ومع ذلك، فمن المرجّح أن تواجه رئاسة السيسي بعض العقبات أيضا من نواح أخري، إذ ستبقي الاستقلالية المؤسّسية للعديد من الجهات الفاعلة ثابتة حتي لو ضعفت الإرادة والرغبة السياسية للوقوف في وجه الرئيس، ومن المحتمل أن يبقي الرئيس متيقّظاً لضمان ألا يستغل الجيش مكانته المتميزة كي يتوحّد خلف أحد منافسيه؛ وربما تكون عملية السيطرة علي برلمان ممزّق وبه العديد من التيارات والآراء والاتجاهات السياسية المختلفة في المعارضة صعبة؛ كما أنه من الممكن أن تؤدّي الأساليب الجديدة للسياسة المثيرة للجدل التي اعتمدها المصريون علي مدي السنوات القليلة الماضية مثل المظاهرات وحملات تقديم العرائض كحركة تمرد والانتقادات العلنية القاسية في الصحف ووسائل الإعلام إلي جعل مسألة توجيه المجتمع وانقياده من الناحية السياسية صعبة هي الأخري، خاصة عندما تنحسر ظاهرة الهوس بالسيسي ويعتاد المصريون رؤيته ويدركون أنه له عيوب وأخطاء كما أن له مزايا، وأنه من المستحيل الجمع بين أمرين لايجتمعان. ويطرح براون وجهة النظر الأخري المتمثلة في رؤية العسكريين أنفسهم لهذا الأمر، فيقول إنه من وجهة نظر شخصية عسكرية، قد يبدو الوضع الحالي مثالياً حيث تتولّي قيادة مدنية ضعيفة زمام المسئولية الرسمية، خاصة بالنسبة للقضايا الاقتصادية والخدمات الاجتماعية، في حين يهيمن الجيش علي الأوضاع من خلف الستار ودون أي مساءلة؛ ويوضح براون أنه لهذا السبب طالما اعتبر أن ترشيح السيسي للرئاسة أمراً مستبعداً؛ إذ أن انتقاله من منصبه الحالي كحاكم فعلي وقوي في الظل إلي منصب الرئاسة وظهوره وانكشافه تحت الأضواء سوف يسبّب له صداعاً لا يعاني منه الآن، وربما أدّي ذلك علي المدي الطويل إلي تحول بعض مؤيّديه المتحمّسين إلي مشكّكين بل معارضين ، خاصة إذا ما استمرت الخدمات العامة في مصر والحالة الإجتماعية ومناحي الحياة في التدهور جنباً إلي جنب مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة والكارثية. ويخلص براون إلي أن الاختيار بين هذين المستقبلين كلاهما مر، حيث ينطوي أحدهما علي وجود جهاز دولة منقسم وعاجز والآخر فيه جهاز أكثر توحّداً وقوة إرادة لكن به ديكتاتورية ومركزية أصبح المصريون يرفضونها، قد يخلق ضغوطاً سياسية علي "السيسي" كي يسعي للحصول علي المنصب. ويضيف براون صحيح أن أياً من هذين السيناريوهين ليس ديمقراطياً في شيء سوي بالمعني الشكلي المتمثل في استفتاء علي الدستور وانتخابات شكلية، لكن في النهاية هذه نتيجة بديهية وواضحة للخيارات السياسية التي أقدم عليها الشعب المصري بعد الإطاحة بالحكومة المنتخبة وكتابته لدستور ونظام سياسي جديد.