أجمل ما في حياتنا أنها قادرة على إبهارنا كل يوم بغموضها وتحدياتها، لأنها ليست جملة من الأحداث المنطقية أو المتسلسلة التي تقودنا فيها البدايات إلى نهايات محتومة. فقد تغرينا ببعض الآمال الصغيرة اليابسة لتلهينا عن غاياتنا الكبيرة ثم تفجأنا بنهايات سعيدة على عكس نبوءاتنا المتشائمة. أو تحملنا مع شهوة الحلم حتى بوابته المفتوحة على مصراعيها، ثم تحيل ما كنا نراه أو نلمسه إلى سراب بقيعة يحسبه الحالم ماء. أما الموت، فيكفينا شر الانتظار الممض لأن أحكامه الصارمة غير القابلة للنقض تظل أرحم في حدتها من ضبابية الانتظار. لكننا رغم هذا نخشى الموت ونحرص على ما بين أيادينا من بقايا حياة وإن كانت كثمار التوت الجافة لا تشبع ولا تستساغ. أما أن يعيش المرء تجربة الموت حيا، ويخرج بعد ثلاثة أيام من حياة برزخية معلقا بين قضبان الحياة وقطار الموت فهو أمر لا يحتمل، وهو بالضبط ما حدث مع لازاروس الشخصية الرئيسية في رائعة ليونيد آندرييف "لازاروس". فقد عاد الرجل من محنة الموت إلى الأهازيج والزغاريد والأيدي الممدودة بالسلام والأذرع المفرودة والصدور المفتوحة على احتمالات جديدة. لكن الرجل الذي عاد بوجه غير الذي ذهب به لم ير فرقا يذكر بين ظلمة القبر وبرودته وأضواء المنزل ودفئه. لم يشعر العائد من جبه العدمي إلى باقة مميزة من الوجوه الباسمة والأصوات الدافئة بين الصمت هناك والصوت هنا. ولم يفلح المهنئون بإقناع الآلام المحشورة في حنجرته البارزة بالتقدم نحو الشفاه الذابلة الجافة. ولم تفلح نكاتهم الفجة في تغيير ملامحه اليابسة أو إحداث انفراجة في الدوائر الزرقاء تحت عينيه الشاردتين. وحين مضع أحدهم سؤالا بين فكيه وبصقه كقذيفة في وجه الرجل الذاهل: "ماذا رأيت هناك يا لازاروس؟" لم يتلق أي جواب يشفي فضول الحاضرين من الفضوليين أمثاله. وحين كررها ثلاثا ولم يتلق ردا سادت حالة من الوجوم الممض وجوه القوم وانصرفوا الواحد تلو الآخر في صمت جنائزي نحو قبورهم الصاخبة. ولم تمر بضعة أيام حتى لحقت أختاه بركب الهاربين من كلاحة وجه لازاروس الممتلئ لتتركاه يقتات على بقايا أطعمة لم يرحب بقدومها ولم يكترث بحامليها. كان الرجل يخرج في قبر لحمه المترهل ليدفئ في حرارة الشمس اللاهبة برودة أحشاءه ويجلس كالصنم فوق صخرة سيزيف في انتظار ممض لغد لا يجيء دون أن يرد تحية أو يجيب على تساؤل. وفي الليل كان يخرج للصحراء ذاهلا ليعود كل يوم بملابس متسخة ممزقة تناوبتها أشواك الصبار وأسنان الكلاب الشاردة. فإذا تأخر عن موعده ذات عاصفة اقتحمت الرمال وحدته وصفقت بابه المعلق كبندول في مهب الريح. ولما سمع النحات الشهير أوريليوس الذي فشل رغم شهرته الرومانية الواسعة في إضفاء الحياة على تماثيله الحجرية بقصة لازاروس ، حمل معطفه وسار إليه برفقة خادمه، لكنه عاد بعد ليلة قاسية معتمة في معزل لازاروس البارد لينحت آخر أعماله الفنية. وحين أقبل رهط من التشكيليين من فجاج البلاد العميقة ليقيموا عمله المسخ لم يملكوا مطارقهم وتركوا أوريليوس تمثالا محطما رغم تكدس عظامه ولحمه وشحمه في كيس جلدي مهترئ. وحين علم أوجستوس الملك بقصة الكائن العدمي الذي خرج على الحياة بأسماله البالية ليخرج الأحياء من نبضهم ويلقيهم في أتون عدمي لا تختلف فيه الفصول، قرر أن يواجهه ليثبت أنه الأشجع بين الأحياء وأنه قادر على هزيمة الخوف في صدره وهزيمة الرعب في عين سفير الموت. ووطأت قدما لازوراس بلاط الملك رغم تحذيرات مستشاريه فلم تلمس فرقا بين بسطه الوثيرة وبلاط الرصيف البارد. تقدم الموت من مستعمرات الحياة هناك في ثقة لامبالية ليواجه غطرسة بلهاء من ملك يجيد الجلوس على الكراسي العاجية ولا يجيد الإنصات لمملكة الآخرة. وانتصر الملك على خوفه بعد أن أصابته من سهام اللحظين رعدة مفاجئة، لكنه قرر أن ينتصر على الموت إلى الأبد فنادى جلاديه وأمرهم بسمل عيني مبعوث الموت حتى لا يراه المتشبثون بمقعدهم فوق سخافات الحياة. لكن التخلي عن عينين لا تريان إلا العدم لم يكن أمرا صعبا على رجل فقد ذات يوم الحياة نفسها. وعاد لازاروس إلى مسقط دفنه بثقبين كبيرين على طرفي جبهته العريضة ليجلس في لهيب الشمس الحارقة في صمته الحجري ليدفئ برودة ثلجية في أطراف روحه المجمدة دون جدوى. وهام الرجل في الصحراء كعادته، لكنه لم يعد إلى بيت احتلته الصحراء برمالها لتغطي ذكرياته الممدة فوق فراشه الخالي الذي حمل روحه بين موتتين في متتالية رتيبة لم تكترث لها أحشاؤه الباردة. رحل لازاروس للمرة الثانية دون أن يمارس مسئولية النبض في سوق الأحداث لأن دقات الموت كانت تعلو كعادتها فوق صخب الحياة. رحل الرجل وترك علامات استفهام كبيرة عند قبره لن نستطيع عبورها وفي جيوب قلوبنا بقية من نبض. قد نستطيع أن نحيا وباستطاعتنا أن نموت لكن البقاء في برزخ عدمي يتوسط الموت والحياة لا طاقة لنا باحتماله، لكننا نضطر أحيانا لمعاشرته شئنا أم أبينا. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]