علي مدار التاريخ البشري من لدن أدم أبو البشر إلى أخر نفس بشرية تشهد نهاية الكون .. شكلت (الحرية) معني ومفهوماً وقيماً وسلوكاً أعيت المعنيين من الفلاسفة والمُفكرين، والاجتماعيين والمُصلحين والإستراتيجيين وغيرهم. فلقد كان موضوعاً معقداً نُظّر له نظريات، ووضعت له فلسفات، وخطت له سلوكيات واستراتيجيات، وكان شعاراً لثورات، وقامت عليه دعاوي واتهامات بين الأفراد والجماعات والدول والتكتلات. وبالرغم من كل ذلك واختلاف العلماء والمفكرين والسياسيين فى مفهوم الحرية لدى الأفراد نجد أن الدين الإسلامي قد وضع قانون الحريات بين الناس فى حياتهم ومعتقداتهم ودياناتهم فى أبسط تعريف وأشمل مفهوم يشمل الجميع. جاء الإسلام بالحرية الحقيقية، الحرية التي هي حق مكفول لجميع الناس وقررها حقاً لبني الإنسان كحقهم في الحياة سواء بسواء. والحياة الكريمة كمنحة إلهية عزيزة لا يتحقق عزتها إلا بالحرية الخالية من كل صور الاستعباد لغير الله تعالي. فالإسلام يرسخ فينا ألا نكون عبيداً لبشر أو لدنيا أو لشهوة أو لمال أو لمتاع أو لجاه، وأن تكون عبوديتنا لله وحده، وفي هذا قمة الحرية والتحرر الذي جاهدت لتحقيقه البشرية عبر كل عصورها . فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان ومنحه حرية اختيار العقيدة والدين وحرية التعبير عن الرأي وحرية التصرف, قال تعالى: ( (ياأيها الناسُ إنً خلقناكُم من ذكر وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبير). (13) سورة الحجرات وقال تعالى: (وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). (29) سورة الكهف . وقال مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). (99) سورة يونس كما حرم الإسلام كل صور الاعتداء علي الدين والنفس والعقل والعرض والمال لينعم الناس بحريتهم الحقيقة في تعاملهم فيما بينهم مع هذه "المقاصد الخمس". بل لقد ذهب البعض لاعتبار "الحرية " مقصداً سادساً من مقاصد الشريعة الإسلامية الحنفية السامحة بعد تلك المقاصد الخمس. ورسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحريات والمساواة والتكافل بين الناس جميعاً فقال صلى الله عليه وسلم : (لا فرق لعربى على أعجمي ولا ابيض على أسود إلا بالتقوى كلكم لأدم وأدم خلق من تراب). وأذكر هذا المثال الرائع الذى ضربه الفاروق عمر بن الخطاب في كفالة الحريات والمساواة في العدل بين الناس دون تمييز أو تفريق بين أبيض على أحمر ولا أصفر على أسود ولا بين مسلم على غير مسلم ولا بين غنى على لا فقير ولا بين حاكم على محكوم . فعن أنس بن مالك : كنا عند عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - إذ جاءه رجل قبطي من أقباط أهل مصر ، فَقَالَ : يا أمير المؤمنين ، هذا مقام العائذ بِكَ ، قَالَ : وما لك ؟ قَالَ : أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي ، فلما رآها الناس قام مُحَمَّد بن عمرو فَقَالَ: فرسي ورب الكعبة ؛ فلما دنا مني عرفته ، فقلت : فرسي ورب الكعبة فَقَامَ إلي فضربني بالسوط ، ويقول : أتأخذها وأنا ابن الأكرمين . فوالله ما زاده عمر بن الخطاب على أن قَالَ له : اجلس ، ثم كتب إلى عمرو بن العاص إذا جاءك كتابي هذا فأقبل ، وأقبل معك بابنك مُحَمَّد ؛ فدعا عمرو ابنه فَقَالَ : أحدث منك حدثاً ؟ أجنيت جناية ؟ قَالَ : لا ، قَالَ : فما بال عمر يكتب فيك .فقدما على عمر بن الخطاب ؛ يقول القبطي فوالله إنا عند عمر حتَّى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء ، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه ، فإذا هو خلف أبيه ، فَقَالَ : أين المصري ؟ فَقَالَ : ها أنا ذا ،قَالَ : دونك الدرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين ، فضربه حتَّى أثخنه .ثم قَالَ : أحلها على كتاب المظالم ليثبتها عمرو بن العاص عنده ! فوالله ما ضربكَ إلا بفضل سلطانه فَقَالَ القبطي : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني ، قَالَ : أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتَّى تكون أنت الَّذِي تدعه ، ثم نظر الفاروق إلى عمرو بن العاص وقال كلمته الشهيرة التى سجلها التاريخ : (أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) ثم التفت إلى المصري ، فَقَالَ : أنصرف راشداً ، فإن رابكَ ريب فاكتب إلى . ذكر القصة ابن عبد الحكم في : فتوح مصر ( ص 29)