وجع ولاد الناس الطيبين كان من أهم الأسرار الكبرى فى طفولتى صندوق نحاسى لم نكن نعرف حتى مكانه. كان صندوق أمى تضع فيه مصوغاتها الذهبية. لم يكن ممكنا فتح أو حتى لمس محتويات الصندوق دون وجودها شخصيا. أحببت الطقم اللؤلؤى اليتيم الذى بدا لى راقيا وخجولا أمام سطوة الذهب. لم تكن أمى ترتدى مصاغها إلا قليلا. وكانت بعض القطع تحمل ذكرى عاطفية ترويها لنا أمى على عجل. أما باقى الذهب فقد كانت أمى تتعامل معه مثل ملايين النساء فى طبقتها.. ادخار واستثمار.. فبعد عام أو أكثر سيتم بيع جزء منه لإعادة طلاء المنزل أو تجديد الصالون، وربما نفعها الذهب فى استثمار فى شقة صيفية أو قطع أرض صغيرة للمستقبل. ولم يكن الذهب استثمارا فقط للحوادث السعيدة. ثمة طوارئ سيئة تواجهها أمى بمخزونها الذهبى القليل. جاءت أحد الأحداث الطارئة فى يوم شتوى من عام 82، عندما مرضت أختى الكبرى واحتاجت لعملية جراحية وكانت أمى قد صرفت معظم المدخرات فى أحد مشروعاتها لتجديد المنزل. خيّر الطبيب أبى بين إجراء العملية فى مستشفى خاص بالمنيل أو مستشفى المنيرة العام. فى المنيرة رفضت أمى ترك ابنتها وسط الزبالة وعدم الاهتمام. دون أن يشعر أحد فى المنزل ذهبت جارتها وصديقتها للصائغ وباعت قطعتين ذهبيتين من ذهب أمى. أجرت أختى العملية فى المستشفى الخاص ولم تنس أمى أن تشترى لها «جلباب بيتى» أبيض فضفاض لأيام ما بعد العملية. بل إنها لم تنس أن تضفى على حياتنا بعض الرفاهية ببقية فلوس الذهب المباع. الآن وعلى الرغم من وصولى لقمة العمل فى مهنتى وعلى الرغم من عملى فى الإعلام.. رغم هذا وذاك فإنى على ثقة أننى لو أصبت بمرض واحتجت لعملية جراحية أنا أو أحد أفراد أسرتى فلن تكفى كل مقتنياتى الذهبية ومدخراتى لإجراء عملية جراحية فى مستشفى خاص لتغطية تكاليف العملية. إن الوجع الأكبر لدى أبناء الطبقة المتوسطة ولاد الناس الطيبين هو المرض أو بالأحرى مواجهة المرض سواء بالأدوية أو العمليات الجراحية. هذا وجع يتحول إلى هاجس أو بالأحرى كابوس يومى نعيش معه ونتألم به ويتسلل إلى أحاديثنا كذكريات مفزعة. 1- حوت الجراحة لا تطلب الطبقة المتوسطة الكثير للعلاج فى المستشفيات لا تبحث عن الرفاهية أو الاسم الرنان والمستشفى سبع نجوم.. كل ما تحتاجه هو مستشفى جيد ونظيف وتستطيع التعامل مع الأطباء والممرضات.. هذه مطالب بسيطة وأحلام مشروعة جدا. ولتحقيق هذه الأحلام تلجأ الطبقة المتوسطة إلى حلين لا ثالث لهما. إما الوحدات الخاصة للمستشفيات الحكومية أو بالأحرى الجامعية أو المستشفيات الخاصة المتوسطة. وكلا الحلين يمكن أن يلتهما كل مدخرات الأسرة ربما لسنوات. تحكى صديقة أن أباها مرض ودخل مستشفى ناصر فى إحدى الوحدات المتخصصة بالدور الرابع.. لم تشك من الأطباء أو التمريض أو الخدمة أو النظافة، ولكن علاج أبيها المريض بالقلب كلفها فى أقل من شهر 80 ألف جنيه. وذلك على الرغم من أنها لم تذهب لمستشفى خاص. بعد أن حصلت على حصة من نقابتها فى العلاج انخفض المبلغ إلى 65 ألف جنيه. لم يوقف نزيف تكلفة المستشفى إلا وفاة والدها رحمه الله. بعد أشهر من وفاته وجدتها تقول لى بحسرة: الحمد لله على كل حال والله أنا مش عارفة كنت هاعمل إيه وأجيب فلوس منين لو كان عاش ومرض مرة تانية ربنا رحمه. صديق آخر له تجربة مريرة مع أحد المستشفيات الخاصة.. والدته مرضت فجأة وأصابها نزيف قرب المستشفى. فدخلت من خلال الطوارئ. رغم القوانين طلبوا منه خمسة آلاف جنيه تحت الحساب. خرج من المستشفى وتوجه لأقرب ماكينة بنك وصرف الفلوس. وعاد للمستشفى ووالدته بين الحياة والموت، ولم يستكمل المستشفى علاج والدته إلا بعد أن أودع الفلوس. فى أقل من يومين وصل حساب المستشفى إلى 35 ألف جنيه.. دفعها صاغرا ونقل والدته إلى مستشفى جامعى بوحدة شريف مختار. ودفع مبلغا معقولا إذا ما قورن بالمستشفى الخاص، ولكنه مبلغ كبير بالنسبة لميزانيته فلم يستهلك المبلغ مدخراته فقط، ولكنه استهلك أيضا قسط الجامعة الخاصة لابنه. فاضطر إلى الحصول على قرض. يقول لى الآن انتهت مدخراتى والظروف لا تسمح بتكوين مدخرات تانية. (اللى جاى على قد اللى رايح).. ويكمل بسؤال أسمعه كثيرا من أصدقائى وصديقاتى بالطبقة المتوسطة: هاعمل إيه لو والدتى أو زوجتى أو ابنى احتاجوا الدخول للمستشفى؟ 2- أزمة دواء من المستشفيات إلى الأدوية.. لم تعد أزمة الأدوية فى غلائها المتكرر والمستمر والمتواصل فقط. بل فى اختفاء الأدوية فجأة تمهيدا لزيادة أسعارها مرة أخرى أو بالأحرى عاشرة. خلال مدة الاختفاء يعامل الدواء مثل المخدرات وتلف على كل الصيدليات تشحت الدواء. لكن ارتفاع الأسعار ضرب بعض أفراد الطبقة المتوسطة فى مقتل. تحكى صديقة: أنفق على أدويتى الآن أربعة آلاف جنيه. وكنت أحصل على جزء من الدواء من العمل. ولكن الوزارة كل شهرين ثلاثة تخفض نسبة مساهمة الوزارة فى الدواء. ولذلك أنفق الآن 4000 جنيه على الدواء. بعد ارتفاعات كثيرة فى الدواء بدأت أعجز عن شراء الأدوية المطلوبة. والحل كان أن أتوقف عن شراء بعض الأدوية شهرًا واستبدل كل شهر بعض الأدوية. طبعا النتيجة كانت مفزعة للدكتورة التى تعالجنى. اضطررت إلى أن أخبرها بالأزمة. عندما عرضت على الدكتورة أن يتحمل أحد الأغنياء تكلفة الدواء دون أن يعلم اسمى شعرت بالإهانة، بل شعرت أننى عارية. مفيش حد فى عائلتى أو أصدقائى شحت الدواء.. مش عارفة أعمل إيه لأن الدواء زاد كمان مرة بعد العيد ربنا يستر. ربنا يستر على الطبقة المتوسطة ويسهل على الحكومة الانتهاء من التأمين الصحى بسرعة الصاروخ.