"بعد تقديم وافر الاحترام، يحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسئوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التي ترتضيها المصالح القومية".. كانت هذه الكلمات التي بدأ بها أول رئيس للجمهورية استقالته عام 1954 عندما وجد صعوبة في التفاهم مع بعض أعضاء تنظيم الضباط الأحرار. اللواء محمد نجيب، تقدم باستقالته لمجلس قيادة الثورة، في 22 فبراير 1954 لكن خرجت تظاهرات شعبية في مصر والسودان تطالبه بالرجوع في هذا القرار، ورجع بالفعل بعد 5 أيام لحكم البلاد ليتصدى لمخالفات بعض ضباط المجلس، وكان يريد أن تستمر مصر في طريق الدولة المدنية وإنهاء الحكم العسكري بعد "52"، لكن أزمة مارس 1954، أظهرت نوايا البعض في عدم الرغبة في انتقال السلطة إلى المدنيين.
سيناريو الاستقالة
توجه "نجيب" عصر يوم 14 ديسمبر 1954 إلى مكتبه بقصر عابدين، ولاحظ عدم أداء ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية، وعندما نزل من سيارته داخل القصر فوجئ بالصاغ حسين عرفة من البوليس الحربي ومعه ضابطان و 10 آخرين يحملون الرشاشات يحيطون به، لم يكن منه إلا أن طلب من "عرفة" الابتعاد حتى لا يحدث قتال بين جنوده و الحرس الجمهوري فاستجاب له ضباط وجنود البوليس الحربي .
صعد نجيب إلى مكتبه واتصل هاتفياً بجمال عبدالناصر ليشرح له ما حدث فأجابه الأخير، بأنه سيرسل عبدالحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ليعرف ماذا يحدث ويحل الأزمة، قال عامر ل"نجيب": "إن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية "
فرد عليهم : " أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسؤولا عن ضياع السودان أما أذا كان الأمر إقالة فمرحبا ."
وذكر محمد نجيب في مذكراته أن عبدالحكيم عامر أقسم أن إقامته في فيلا زينب الوكيل بمنطقة المرج، لن تزيد عن بضعة أيام ليعود بعدها إلى بيته، لكنه لم يفي بوعده وحدث ما لم يحمد عقباه.
فخرج أول رئيس لمصر بعد أن ساعد في إنهاء الحكم الملكي منذ 1805، من مكتبه في هدوء وصمت حاملا المصحف مع حسن إبراهيم في سيارة إلي معتقل المرج وحزن على الطريقة التي خرج بها فلم تؤد له التحية العسكرية ولم يطلق البروجي لتحيته وقارن بين وداعه للملك فاروق الذي أطلق له 21 طلقة وبين طريقة وداعه .
عندما وصل إلي فيلا زينب الوكيل وجدها خالية من الأثاث والمفروشات واللوحات والتحف وتركت له كأنها صحراء جرداء، ووضع تحت الإقامة الجبرية ومنع تماماً من الخروج أو من مقابلة أي شخص حتى أفراد عائلته .
أقيمت حول الفيلا حراسة مشددة حيث كان علي من في البيت ألا يخرج منه من الغروب إلى الشروق وكان عليهم أن يغلقوا النوافذ في عز الصيف تجنبا للصداع الذي يسببه الجنود .
وبعد أن أحكم "عبدالناصر" قبضته على البلاد في 56، حدث العدوان الثلاثي على البلاد وانتشرت أخبار تتعلق بأن إنجلترا ستسقط بعض جنود المظلات علي فيلا زينب الوكيل في المرج لإعادة محمد نجيب رئيساً للجمهورية من جديد بدلاً "عبدالناصر" وتم نقل "نجيب" إلى سوهاج، ولكن بعد فشل العدوان تم إعادته إلى مقر إقامته الجبرية بالمرج.
وجري التنكيل به حتي إن أحد الحراس ضربه علي صدره في نفس مكان الإصابة التي تعرض لها في حرب 1948 ، كتب الرئيس نجيب عن ذلك في مذكراته التي نشرت عام 1984: "يومها هانت علي الدنيا.. فقررت أن أضرب عن الطعام".
"مستعد أقوم بعمل انتحاري كأن أسقط بطائرة"
وبعد هزيمة الجيش في نكسة 1967، طلب نجيب أن يحارب في الجيش تحت اسم مستعار، وأرسل إلى عبدالناصر، قائلًا : "أريد منك أن تسمح لي بأعز أمنية لي وهي المشاركة في أقدس واجب وأشرفه، وهو الدفاع عن مصر فاسمح لي بالتطوع جنديًا عاديًا في جبهة القتال باسم مستعار وتحت أية رقابه شئت دون أن يعلم أحد بذلك غير المختصين، وإني أعدك بأثمن ما أملك أعدك بشرفي أن أعود إلى معتقلي إذا بقيت حيًا بعد انتهاء القتال.. وإني مستعد أن أقوم بعمل انتحاري كأن أسقط بطائرة أو مظلة محاطًا بالديناميت على أي هدف مهم وهذا إقرار مني بذلك".
وخطاب ثالث يعاني فيه نجيب من الأحوال المعيشية السيئة، متسائلاً: "هل أنا حي أم ميت؟ لم أحلق شعري منذ شهر ولم يزورني الطبيب منذ 10 أيام رغم أنه يأخذ يومًا حقنة للكبد".
"أتمنى أن أرسل لزوجتي وأولادي خطابًا كل أسبوع يطمئنون فيه علىّ"
أرسل نجيب إلى عبدالناصر العديد من الرسائل التي أعرب بها عن سوء حالته الصحية والنفسية وعن اشتياقه لزوجته وأولاده، :"أتمنى أن أرسل لزوجتي وأولادي خطابًا كل أسبوع يطمئنون فيه علىّ أني مازلت على قيد الحياة، على أن يصلني منهم ولو سطر واحد يؤكد لي أنهم تسلموا خطاباتي فأطمئن عليهم، وطبعا أنا وأولادي وكل ما نملك فداء للوطن".
"السادات" ورفع الإقامة الجبرية
جاء الفرج في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بعد أن رفع الإقامة الجبرية على "نجيب"، فعلق الأخير عليها قائلًا: "قال لي السادات: أنت حر طليق، لم أصدق نفسي هل استطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة ؟ هل أستطيع أن أتكلم في التلفون بلا تنصت ؟ هل استطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب!"
كان نجيب حبيسًا منذ 1954 حتي إطلاق سراحه بقرار من الرئيس الراحل محمد انور السادات عام 1971.
"لم اصدق ذلك بسهولة .. فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه ، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته، وانا لم اكن سجينا عاديا كنت سجينا يحصون انفاسه ".
وصف "نجيب" حياته السابقة في الإقامة الجبرية قائلاً: "وكنت أخشى أن اقترب من أحد حتى لا يختفي، ولكن بعد فتره وبالتدريج عدت إلى حريتي وعدت إلى الناس وعدت إلى الحياة العامة". تجاهل "مبارك"
يوجد أقاويل متضاربة حول علاقة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ب"نجيب" فقد تجاهله تماما في كلماته كافة، التي حرص على إلقائها بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو من كل عام، وكان يشير إلى دور الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات متجاهلاً تماما دور الرئيس محمد نجيب فى مسار التحول بعد ثورة 1952، إلا أنه أمر بنقله إلى مستشفى كوبري القبة العسكري بعد صراع مع المرض إثر دخوله في غيبوبة دامت 4 سنوات.
حتى رحل عن عالمنا يوم 28 أغسطس، 1984وأمر مبارك بتشييع جنازته عسكريًا من مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر و دفن في مصر بمقابر شهداء القوات المسلحة.
"عدلي منصور" وقلادة النيل
وفي 29 ديسمبر 2013 سلم الرئيس عدلى منصور، بمقر رئاسة الجمهورية بمصر الجديدة، قلادة النيل الممنوحة لاسم الرئيس الراحل محمد نجيب.