«حين كنت أقوم بتحقيقي حول المذابح، اكتشفت أن أفريقيا مهمة جدا لإسرائيل، لا بل أقول إنها كانت مسألة حياة أو موت"، تلخّص هذه الجملة الواردة في كتاب "المذابح: الحروب السرية في أفريقيا"، للكاتب الفرنسي بيير بيان الأسباب الظاهرة والخفية للزيارة التاريخية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمجموعة من الدول الأفريقية ذات الثقل الجغرافي والسياسي. وقالت صحيفة العرب اللندنية، يكفي أن ننظر إلى خارطة الدول التي ذهب إليها نتنياهو محمّلا ب80 رجلا من أبرز رجال الأعمال في إسرائيل وبمجموعة من المشاريع الاقتصادية والتنموية والوعود المغرية، لنعرف ماذا تريد إسرائيل من دول حوض النيل، وما هي أهمية أفريقيا بالنسبة لها في الوقت الراهن، ومدى استعداد هذه الدول للتجاوب مع مطالب إسرائيل؟
وأضافت الصحيفة: انطلقت جولة نتنياهو الأفريقية، الاثنين 4 يوليو من أوغندا، ليزور بعدها كينيا ورواندا فيما كانت إثيوبيا، التي حطّ الرحال بها يوم 7 يوليو، أبرز محطّات جولته وأكثرها إثارة للجدل، نظرا للأزمة المندلعة بين أديس أبابا والقاهرة بشأن سد النهضة، وهي أزمة لا تطرح إلا ويكون اسم إسرائيل مذكورا فيها؛ وأيضا بسبب التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام ديسالين حين قال إن بلاده تدعم حصول إسرائيل على منصب عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي.
وكان من بين الوعود التي أطلقها نتنياهو تخصيص أموال للبعض من دول القارة في البنك الدولي مع استخدام المزايا النسبية لإسرائيل، وتوسيع شبكة الملحقين التجاريين، حيث سيتم فتح مكتبين في أفريقيا في المرحلة الأولى، والنظر في إمكانية فتح مكاتب إضافية في المستقبل، وإنشاء أربعة مراكز للتميز في أوغندا وإثيوبيا وكينيا ورواندا تعبر عن قدرات إسرائيل التكنولوجية المعروفة ومساعدة رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين في الدول الأفريقية وزيادة الصادرات الإسرائيلية إليها.
ووعد نتنياهو حلفاءه الأفارقة أيضا بتقديم المشاريع المالية من خلال إنشاء آلية لخفض التكاليف للشركات الإسرائيلية لممارسة الأعمال التجارية في أفريقيا، وإنشاء وكالة في وزارة الصحة كمنصة للاتفاقات بين النظام الصحي الإسرائيلي والنظم الصحية في هذه البلدان الأفريقية، وتوفير المنح لدعم المنتجات التي تحتاج إلى نشاط في البحث والتطوير لتكييفها بخصوص التكنولوجيا.
تعود العلاقات الإسرائيلية الأفريقية إلى خمسينات القرن الماضي، لكن بعد حرب 1967 ثم حرب 1973، عمدت الدول الأفريقية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
وتدرك إسرائيل الأهمية الإستراتيجية للقارة الأفريقية لذلك عملت بصمت خلال سنوات القطيعة على التوغل "الناعم"، خصوصا في جنوب القارة وغربها، واعتمدت في ذلك خطتين رئيستين:
الاستيطان الاستثماري: من خلال الشركات الاستثمارية التي سيطرت على قطاعات حيوية مثل التشييد والبنى التحتية والصناعات التكنولوجية والكهربائية ومجال الزراعة والصفقات العسكرية. ويتجاوز عدد الشركات الإسرائيلية العاملة في أفريقيا نحو 100 شركة عاملة في مجال المياه والتكنولويجا والاتصالات والطاقة البديلة والبنية التحتية، والثروات المعدنية وبناء السدود على نهر النيل.
دعم الجبهات الانفصالية، على غرار ما حدث مع جنوب السودان؛ حيث تؤكّد تقارير عديدة أن إسرائيل لعبت دورا هاما في انفصال جنوب السودان. ويؤكّد على ذلك جوزيف لاقو، مستشار الرئيس سلفاكير ميارديت للمهمات الخاصة، وزعيم حركة الأنيانيا الجنوبية الانفصالية في خمسينات القرن الماضي، في كتابه "حركة تحرير جنوب السودان"، بالدعم الذي قدمته إسرائيل للحركة، أثناء قتالها ضد حكومة الخرطوم.
ودعم ذلك بيير بيان في كتابه بقوله إن إسرائيل تعتبر السودان واحدا من الدول الأكثر خطورة بسبب مساحته وخيراته الباطنية. وبالتالي فإن إسرائيل فكرت دائما بضرورة أن تكون الخرطوم مشغولة دائما بحدودها، أولا بجنوب السودان من خلال تشجيع الحركات الانفصالية في الجنوب.
ويضيف بيان أن اسرائيل تتسلل إلى أفريقيا من خلال ما يعرف بالتحالف الدائر، أي أن تكون لها تحالفات مع الدول المجاورة للدول التي تعتبرها إسرائيل خطيرة أو تلك التي يمكن أن تصبح خطيرة، وهكذا فإن إسرائيل تحالفت مع إثيوبيا وإريتريا وأوغندا.
إثيوبيا.. المحطة الأبرز
قال الخبير المصري في الشؤون الأفريقية حمدي عبدالرحمن ل"العرب" إن إسرائيل تقوم بأدوار متعددة في القارة، ونجحت في تطوير علاقاتها مع عدد من الدول المحورية، ونسجت شبكة متينة من المصالح مع غالبيتها. وأوضح أن الدور الإسرائيلي في دعم سد النهضة الإثيوبي يرتبط بسعي إسرائيل الدائم للوصول إلى منابع النيل.
ومن هنا حملت زيارة نتنياهو إلى إثيوبيا أهمية كبرى تجاوزت بقية الدول، رغم أن علاقة إسرائيل بكينيا مثلا، أقدم من علاقتها بإثيوبيا، حيث تعتبر كينيا قاعدة رئيسية تراقب منها إسرائيل ما يجري في المنطقة الأفريقية، مقابل ذلك تساعد إسرائيل الحكومة في كينيا في حربها ضدّ حركة الشباب المجاهدين الصومالية.
ويربط الخبراء بين الاستفزازات الإثيوبية لمصر حول قضية سدّ النهضة، ودعم إسرائيلي خفي لأديس أبابا لتمضي قدما في مشروعها. وقال أحمد فوزي دياب الخبير المائي بالأممالمتحدة ل"العرب"، إن بدء تخزين السد يؤكد خطورة التحدي الإثيوبي لمصر، ما يبرهن على أن المشكلة ليست فنية إنما تتعلق بأهداف سياسية إقليمية كبرى.
وسبق سد النهضة سد آخر هو سد تيكيزي الذي انتهت إثيوبيا من تشييده على نهر النيل في نوفمبر 2009. وهذا السد إلى جانب سد النهضة واحد من بين العشرات من السدود الأخرى التي تخطط أديس أبابا لتشييدها على نهر النيل بدعم وتمويل إسرائيليين.
وتتطلّع إسرائيل من خلال هذا الدعم إلى ضمان أمنها المائي والحصول على حصة ثابتة من مياه نهر النيل. وهي خطة قديمة تعود إلى سنة 1903 عندما قدم تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية للحكومة البريطانية مشروع توطين اليهود في سيناء، واستغلال ما فيها من مياه جوفية وكذلك بعض مياه النيل، لكن بريطانيا، التي كانت تستعمر مصر، وتستفيد من زراعتها، رفضت هذه الفكرة. ثم تجدّدت الفكرة سنة 1974 مع مشروع اليشع كالي الذي كان يهدف إلى نقل مياه النيل إلى صحراء النقب عبر أنابيب تمر أسفل قناة السويس.
ويشير محمد سلمان طايع في كتابه "مصر وأزمة مياه النيل: آفاق الصراع والتعاون" إلى أن هذا الطرح قوبل برفض من الجهات المصرية، لكن لم تتوقف إسرائيل عن المحاولة وأعادت طرحه سنة 1986 و1989، ثم ظهر مرة أخرى في كتاب أصدره اليشع كالي سنة 1991 تحت عنوان "المياه والسلام".
ونظرا لأنها فشلت في تحقيق حلمها بجر مياه النيل عبر صحراء سيناء، قررت إسرائيل الضغط على مصر والسودان من خلال سياسة التطويق.
ويشير محمد سلمان طايع إلى أنه في هذا السياق تتنزل آلية التغلغل الإسرائيلي في دول حوض النيل والتي قامت على الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري، وأيضا الثقافي، حيث عملت إسرائيل على استقطاب يهود تلك البلدان، وخصوصا إثيوبيا. وهو أمر لم يفت نتنياهو، استحضاره، حيث عمد إلى طلب المساعدة من أديس أبابا ل"تحرير افراهام منغيستو، الأثيوبي الإسرائيلي الذي تحتجزه حركة حماس في قطاع غزة". كما عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي على استخدام خطاب عاطفي يركّز على افتخار الإثيوبيين بتاريخهم وتأكيدهم الدائم على أن الحبشة (الاسم التاريخي لإثيوبيا) كانت في الماضي مركزا مهما للديانة اليهودية.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي "قلتم إن لإسرائيل مكانة خاصة في إثيوبيا ولإثيوبيا مكانة خاصة في إسرائيل، هذا صحيح جدا وهذه العلاقة بدأت قبل 3000 عام مع الملك شلومو وملكة سبأ وأقترح ألا ننظر 3000 عام أخرى من أجل تعزيز تلك العلاقات. ونحن ملتزمون بتعزيز الشراكة بطرق عملية، وفي مجالات مهمة، يتصدرها مجال المياه والري، وسيتم توقيع اتفاقية تعاون في مجال الفضاء وتوطيد العلاقات التكنولوجية والعلمية والأكاديمية". ويبلغ إجمالي رأس المال الإسرائيلي المستثمر في إثيوبيا نحو مليار و57 مليون دولار أميركي، في 281 مشروعا، منها 11 تحت التنفيذ.
وطبيعي أمام هذا الدعم أن تطالب أديس أبابا منظمة الاتحاد الأفريقي بإعادة منح إسرائيل صفة عضو مراقب لدى الاتحاد الأفريقي، وهي مكانة ستضمن لإسرائيل تواجدا كاملا في القارة، وهي التي تطوقها عبر شبكة تمتد من القرن الأفريقي في الشرق وتمر بقلب القارة وغربها وتنتهي بجنوبها، و"الانضمام" إلى الاتحاد الأفريقي يعني علاقة غير مباشرة مع دول شمال أفريقيا.
امتيازات أخرى
يعيش عدد من الدول الأفريقية على وقع تنام في خطر التطرف، ما دفع حكومات بعض الدول إلى البحث عن تقنيات متقدمة لاستخدامها في المواجهة؛ ولم يكن هناك أفضل من إسرائيل لعرض المساعدات.
وتعني استمالة الدول الأفريقية ثم ضمان تأييدها لإسرائيل في المؤسسات الدولية ومؤسسات الأممالمتحدة التي ما تنفك تقاريرها تنتقد الانتهاكات الإسرائيلية. وقد أكّد على ذلك مدير عام وزارة الخارجية دوري غولد الذي قال إن جولة رئيس الوزراء الأفريقية تمهد الطريق أمام عودة إسرائيل إلى القارة السوداء، معربا عن اعتقاده بأن توثيق العلاقات مع دول هذه القارة سيخدم إسرائيل في عمليات التصويت في الأممالمتحدة ومؤسساتها. وشدد غولد في حديث لإحدى الإذاعات الإسرائيلية على أهمية حشد دعم الدول الأفريقية في هيئات مثل المجلس الأممي لحقوق الإنسان في جنيف.
وفي الوقت نفسه، يشكّل التواجد الإسرائيلي في القارة منافسة كبرى لإيران وأذرعها، خصوصا في غرب أفريقيا (النيجر ونيجريا وغانا وليبيريا وساحل العاج)؛ فالتمركز الإسرائيلي القوي في المنطقة يعني مراقبة سواحل الأطلسي والتصدي لحزب الله الذي تقول تقارير إنه ينشط بكثافة في تلك المنطقة، ويحصل على عوائد سنوية ضخمة من عملائه المتورطين في عمليات غسل أموال وتجارة مخدرات.
ولضمان نتائج أفضل، ووفق المؤشرات الإيجابية لزيارته الراهنة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه يخطط لزيارة غرب أفريقيا أسوة بالجولة الحالية التي تقوده إلى دول في شرق القارة. وأضاف أن "لقاءه بقادة شرق أفريقيا سيُنظر إليه في إسرائيل كنقطة تحول في قدرتنا على الوصول إلى عدد كبير من الدول الأفريقية.. هذه القمة تبشر بفتح عصر جديد في العلاقات بين إسرائيل ودول أفريقيا".