"رعيت غنم، جنيت قطن، قطعت النخل، علاقتي بالأحذية حديثة".. كلمات تنم عن فقر قاحط؛ لكن لا يكف صاحبها عن ذكرها مباهيًا بها الجميع ببسمة تفترش وجهه القمحاوي وسماره الصعيدي مشكلها بوترية لأجمل صورة للإنسان المصري الأصيل، كنا فقراء لكننا كنا سعداء، عمرنا ما حسينا إننا فقراء. إنه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، أو "الخال" كما يحب الجميع وصفه.. يوافق اليوم ذكرى وفاته الأولى رحل لكنه مازالت كلماته تتردد على ألسنتنا في كل موقف مفرح أو حزين ، في كل موقف سياسي أو وطني، وفي كل مناسبة . كان عنوانا للتراث الشعبي، ومنبرا لنبض المواطن البسيط، دائما كانت قصائده تحمل هموم الشارع ومشاكله، وتتضمن مزيجا من العبارات العامية البسيطة التي ما أن تسمعها تحفظها عن ظهر قلب. غنى لكل شيء للحب والخير والجمال.. للعوز والفقر والحاجة .. غنى للإنسان ، وهو بتلك الأغنية يصف رحلته في الحياة ويسرد تاريخه ومستقبله في كلمات بسيطة، تحمل الكثير من المعاني العميقة. من هو؟ هو أديب مصري وواحد من أشهر شعراء العامية في مصر ولد يوم 11 أبريل عام 1938م في قرية أبنود بمحافظة قنا، حصل على ليسانس اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث توسعت معارفه الأدبية وقرأ لكبار الشعراء كالمتنبي وأبي العلاء المعري هو متزوج من المذيعة المصرية "نهال كمال" ولديهم ابنتان هما "آية – نور". بدأ "الأبنودي" كتاباته الشعرية باللهجة العامية منذ صغره ونظم عدد من القصائد الوطنية حيث استطاع ببراعة فائقة أن يلتقط في شعره الخواص التعبيرية البسيطة للسان أهل بيئته البسطاء في صعيد مصر وأن يجسد أحلامهم وأمانيهم ووحدة مجتمعهم الصعيدي الذي كان المجال الحيوي الملهم لمعظم قصائده. شهدت القصيدة العامية على يد "الأبنودي" مرحلة انتقالية هامة حيث نجحت في فرض وجودها على الساحة الشعرية والثقافية وهو يعد أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية عام 2001م. أشهر أعماله قدم "الأبنودي" العديد من الأعمال الأدبية والشعرية ومن أشهر أعماله: "السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد وكتاب بعنوان "أيامي الحلوة" يحكي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر. ومن أشهر قصائده "خايف أموت، الأحزان العادية، زمن عبدلحليم، سيد طه، قمر يافا، يامنة، الاسم المشطوب، بغداد، "الخواجة لامبو مات فى أسبانيا"، موال عدى النهار". كما كتب العديد من الأغاني لعدد من المطربين الكبار منهم (عبد الحليم حافظ – محمد رشدي – فايزة أحمد – نجاة الصغيرة – شادية – صباح – ماجدة الرومى – وردة) واستطاع من خلال أغانية الوطنية مع الفنان عبد الحليم حافظ أن يصبح أحد علامات النضال والكفاح الوطني حيث خلق حاله من الوحدة التي جمعت بين قلوب المصريين والعرب. وعن أعماله يقول حسام مهران إن قصائده عامة ويامنة خاصة من أروع ما أسمع من شعر في حياتي .. تشم فيها رائحة الصعيد الحقيقي وليس صعيد المسلسلات، يأخذك الأبنودي إلى قلب الصعيد لتصدمك جرعة هائلة من الحكمة والصدق في حديث "يامنة" عمة الأبنودي عن الموت والحياة. جانبه الإنساني لم يحرج "الأبنودي" من رواية قصة حياته الفقيرة في أحياء الصعيد، وعمله كراعي "غنم" أو جاني "محاصيل" فلا تكد تطأ قدماه منبرًا إعلاميًا إلا وسرد رحلته التي يتباهى بها رغم قساوتها راسمًا صورة ذهنية رائعة لأبناء الصعيد عند القاهريين.. عمومًا يقول "الخال": "الفقر هو اللي وصلنا للمرحلة دي، والأرزاق مقسمة، عمر ما كان الفقر وحش، الفقر هو غني فاحش". كثيرًا ما كان يذكر والدته الست "فاطمة قنديل"، ويقول إنها "أمية" غير متعلمة، لكنها كانت مثقفة بما تحفظه من دواوين، وأمثال شعبية، ونوادر جاهلية، أما زوجته فكان لا يكف عن مداعبتها خلال البرنامج الذي خصص لسرد تفاصيل أيام الخال تحت مسمى "أيامي الحلوة" وكانت زوجته المذيعة هي محاورته. تقول زوجته المذيعة نهال كمال، مختصرة شخصية زوجها الأبنودي بقولها: "كانت عقدته "توزيع الفلوس" اي انه كان كريمًا جدًا، والخوف علي البنات، وهواياته "حب الصيد، وحب الطبخ". بينما تقول إحدى معجباته "رجاء أحمد عبدالقادر": "كان وطني جدًا والجميع يطلق عليه "خال" لإحساسهم بالقرب منه، وكان اجتماعي مدللة على ذلك بأن جنازته "وكأنها لرئيس جمهورية"- حسب وصفها- والكل يحبه، مضيفة كان يحب السيرة الهلالية جدًا، ويساعد يتامى بلده". أما الصديق المقرب من الأبنودي الكاتب الصحفي والشاعر وائل السمري فيقول "الشاعر طفل العالم، ولا يقدر العالم على القفز نحو المستحيل إلا بجسارة طفل وشجاعة طفل، ونزق طفل، وحيوية طفل ونعومة طفل، وهذا هو الشاعر، وهذا هو عبدالرحمن الأبنودى، طفل العالم المشاغب المنفعل، المستهتر بانضباط والمندفع باتزان، المخلوق من عرق الأرض وملحها، تراه فتدرك أن مصر غالبا ما تختار، أن تحل فى أحد أبنائها فتأخذ منهم رحيق الحياة، وتمنحهم محبة الناس ليظلوا فيها خالدين". "دوره السياسي" عاصر الشاعر "عبد الرحمن الأبنودي" جيل الحداثة في مصر وشهد تحولات سياسية واجتماعية مختلفة في عهد عبد الناصر وأنور السادات وعلي الرغم من انتقاده لكلا النظامين من خلال قصائده الساخرة إلا أنه ما زال متحمساً وموالياً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. تعرض الأبنودي للاعتقال أكثر من مرة حيث تم إلقاء القبض عليه عام 1966م ضمن تنظيم وحدة الشيوعية واعتقل لمدة أربع شهور في سجن القلعة حتى تم الإفراج عنه. النهاية غاب الخال عن دنيانا 21 إبريل 2015، بجسده، لكن أشعاره وإسهاماته الفنية والوطنية ستبقى لتشكل وجدان الأجيال المقبلة كما شكلت وجدان الأجيال التي عاصروها.