عيناها تحتفظان ببريق غريب سرعان ما يأخذ الناظر إليها، لكن الظاهر أبعد بكثير من باطنها المُستعر.. ببساطة هي مجرد بقايا ربيع في امرأة مستهلكة المشاعر.. طالها الشيب ولا تستطيع أن تواريه.. فكم من نظرة عنيفة رمقتها.. وكم من كلمة جريئة لفظتها.. وكم من مشاعر قوية عاشتها.. وكم من لحظة دافئة احتضنتها.. ذات صباح من فصل الخريف.. انتظرته ووجهها شاحبًا ومرهقًا كأنها لم تنمْ منذ فترة.. في ساحة الجامعة مكثت على الموعد.. يرتجف قلبها قلقًا واضطرابًا.. الرياح الباردة تصفعها.. وندف البرد حوّل باحة المكان إلى حفل عزاء تتثاقل فيها الدقائق التي تعْبُر حياتها بكآبة للمرة الأولى.. ستائر سوداء ثقيلة تحجب عينيها عن رؤية الضوء.. ملابسها الأنيقة بدت مشطورة باهتة.. مرت دقائق معدودة تقطع أرجاء المكان جيئة وذهابًا.. حتى لمحته قادمًا مندفعًا نحوها مشعلًا سيجارته.. وقفا وسط استراحة الطلاب الخالية من جنس البشر.. رمقها بنظرات عابسة وصاح: "اسمعي يا بنت الحلال.. عشنا أحاسيس جميلة ارتطمت فيها أجسادنا كثيرًا ولامسنا جذور أرواحنا لكن لكل بداية نهاية.. وبداية حكايتنا النهاية.. لازم نفترق".. تزحزح خطوتين إلى الخلف، وقال بنبرة مليئة بالتجبر: "والحقيقة لا أثق فيكِ كزوجة ليّ.. أنتِ غانية ولا أضمن سلوكك.. وإياكِ أن تفكرين في الوقوف أمام طريقي". صعقات كلامه صبغت السماء باللون الأحمر وأمطرت عليها جمرًا ولهبًا.. انسابت دموعها بسعة مجرى النهر الذي يعبر المدينة.. ولاذت بالصمت حتى استوعبت الفاجعة.. شعرت بوهن في قدميها وتثاقلت خطواتها.. ذهبت تشق طريقها بصعوبة.. تسند رأسها إلى سور الجامعة كي تلتقط أنفاسها.. رحلت دون التفوه بكلمة استنكار واحدة من هول الصدمة! فلاش باك ل"5 سنوات" كانت تعْشق الحياة وتغْرق في الجنون.. تذوب في الحرية وتهوىَ التمرد.. تغمر حياتها السعادة بمجرد ما تبعث شمس صباح كل يوم تنهداتها إليها.. إلا أن مشهدًا طويلًا من لوحها المحفوظ في السماء بدّل طريقها.. وأطفأ ابتسامتها.. وقَتَلَ برائتها.. انسكب فيه الحبر فكان أشبه ب"الشخبطة".. بالأمس كانت طالبة في الصف الثاني الثانوي بمدرسة "ليسيه الحرية" بالمعادي.. دقّ قلبها بولعة تجاه زميلها الذي يكبرها بعام والمنقول جديدًا إلى المدرسة.. منحته كل ما تملك.. لم يبادلها الشعور سوى أن يلاطفها لرقة مشاعرها.. يغازلها بالكلمات المعسولة دون أن يدق قلبه تجاهها.. يري نفسه محظوظًا.. كل زملائه لا يستطيعون حتى التحدث معها.. وقَعَتْ هي في غرامه.. رأى في الأمر لذة وتمادى فيه رغم سكونِ مشاعره.. لم يحركه سوى شهوته الحيوانية. بمجرد رؤيتها سرعان ما يفور الدم ويصل إلى مخه.. خاصة أنها تمتلك قسطًا كبيرًا من الجمال.. شعرها ناعم وجهها أبيض فاتن.. لها نغازتان خلابتان عيناها لامعتان.. شفتاها مكتظتان يفضلها الرجال.. ملابسها الضيقة يظهر جسدها الفائر بالحيوية ذو الثديين الرابضين.. وسيقانها الحريرية التي ترسل ذبذبات شهوة تفقده تركيزه ويموج بخياله معها.. في إحدى المَرَاتِ أذعن وعقدَ عصبةَ على عينيها وطبع قُبلة رقيقة على شفتيها قبل أن يخلو بها في غرفة اتحاد الطلبة الذي يترأسه، بعد انقضاء اليوم الدراسي.. وما أن دخلا الحجرة حتى انكشح النور إلا ضوء خفيف تسرب من الباب.. أمسك يدها واستلقيا على أريكة مقابلة لمكتب رئيس الاتحاد.. وجلسا وجهًا لوجه اقتربا منها حتى لامس ركبتيها.. واهتزت دقات قلبها هزًا.. ثمة أحاسيس جديدة تضطرم داخلها.. راح ينظر في مقلتيها بشهوة جامحة حتى فقدت شعورها ما أن احتضنها بقوة والتقم شفتيها.. أقلع قسطًا من ملابسها وسرحت يداه تستشعر تضاريس جسدها.. ملأ عطرها الندي أنفه.. اندمجا حتى تأوهت وتوهج.. وظلا مخموران بفرط اللذة حتى انطفأت نار لوعتهما بسماع رنة هاتفه لصديق يخبره بتحرك عامل النظافة إلى الحجرة لتنظيفها.. "عليه الذهاب الآن". تغمرها السعادة حينما تكون بين أحضانه تتهاوى معه الدنيا بما فيها.. تفيض تجاهه بقلبها المغشي عليه.. وهو لا يفكر سوى في إفراغ شهوته عندها.. لا يرى سوى جسدها النسوي الفائر..
كررا المشهد مرارًا.. حتى في منزلها حينما كانا يجتمعان في "الدرس الخصوصي" لمادة الأدب الفرنسي.. فبعد ذهاب مُدرس المادة ترتطمت أجسادهما ويظلان متمرغين باللذة.. ظل يلعب دور "المُحب" بجدارة.. وراحت هي تعشقه من أعماقها.. حتى انتقلا معًا إلى الجامعة الفرنسية بعد رسوبه عاما.. وبدأت الخلافات بينهما في السنة الثالثة بعدما تعلق قلبه بأخرى وعرِفت هي من صديقة لها.. دارت الدنيا حولها وراحت تحادث نفسها في ذهول واستعجاب "كيف ذلك؟.. بالأمس قال ليّ أنتِ عشقي ولا غيرك.. محادثة "الواتس" التي امتدت حتى الساعات الأولى من هذا الصباح ووصلة الغزل أين؟.. ثمة أمر غريب ربما كذِب أو مزاح.. وما أن أدركت الحقيقة حتى أفاقت واكتشفت أن ما في جوفه لم يكنْ قلبًا يُحب.. بل كان وحش يقتل وسيف يبتر وجَحْدُ يمزق.. حاولت ضمدت حرجها الغائر.. وجف دموعها السائرة.. بدأت رحلة النسيان ولا تدري هل سيحدث الله بعد ذلك أمرًا.. هل ستهدي إلى شاطئٍ تستريح فيها لتنطلق حياة جديدة دون عشقيها الذي لازمها طوال تلك المدة.. وكان السؤال الأهم وشغلها الشاغل هو.. هل تستطيع النسيان حقًا؟ التقت شبابًا كثيرين وتنقلت بين هذا وذلك.. حاولت جاهدة النسيان لكن ما أن يأتي الليل حتى يهيج جرحها ويصرخ ألمًا بلا هوادة.. افتقدت حضنه، لمسة يده.. ووجوده الذي يشعرها بالأمان ويمنحها الحنين ويمدها بالقوة.. ماتت القصة لكّنها حيّة في قلبها.. في كل مرة كانت ترى محبوبها القديم.. أصبحت عاجزة عن نسيانه.. تشعر بلمسة يده حينما يلامسها هذا.. وتحب قُبلة ذاك لأنها تُذكرها به.. تعيش معه في كل ما رأت بخيالها.. تحاول البحث عنه في كل الرجال.. كأنها مريضة بمرض مستعصِ لا دواء له.. ذابت بين أيدي هذا وذلك.. خاضت في أعماق الرجال تنقب عن معشوقها.. تنقلت بين شاب وآخر.. وبين هذا كله لا أحد يستطيع التسلل إلى قلبها.. "فتى الليسية" قابع داخله رغم دناوته.. جعلت نفْسها أسيرة إليه طوال حياتها.. يراودها حينما تخلو بنفسها.. ترتسم ملامحه على وجوه الغرباء الذين سمحت لهم باكتشاف تفاصيلها.. حصلت على وظيفة مرموقة تميزت بتعدد العلاقات وكثرة المعارف.. تشعبت علاقتها أكثر وأكثر بالرجال.. لا تحرج شابًا أبدًا.. تمازج هذا وتضحك مع ذاك.. تتلذذ بالكلمات الرقيقة.. تعشق الغزل والمديح.. تلين وترضى بأبسط النظرات.. تتأود وتتثنى بطريقة رقيقة..
تقدم إليها أكثر من شاب لخطبتها.. ترفض تارات وتوافق تارة.. قلبها لا يتوب عن حبه الأول.. ارتضت أن تستمر علاقتهما لأنها يمنحها أحاسيس زائفة مسكنة.. رغم ارتباطها الرسمي بأخر.. تقتلها الأسئلة دائمًا.. يئن ضميرها أحيانًا تجاه علاقتها الرسمية.. هل ستظل تنطق بكلمات لا تتعدى الحناجر؟ هل ترضى كالكثير من زملائها وتتزوج وتعيش و"أهي عيشة وخلاص"؟ هل حقًا الحب أمر والزواج أمر آخر مختلف؟ هل تكون حاضرة بجسدها وروحها في مكانٍ آخر؟