تعرف على الضوابط الإعلامية لتغطية انتخابات مجلس النواب 2025    "تعليم القليوبية": طالبة ب"النور للمكفوفين" تحرز المركز الثاني في "تحدي القراءة العربي"    ملك بريطانيا وزوجته يبدآن زيارة رسمية للفاتيكان بلقاء البابا لاون الرابع عشر.. صور    وزيرة التضامن تتلقى طلب الاتحاد المصري لتمويل المشروعات للانضمام لبرنامج المنظومة المالية    محافظ سوهاج يتفقد فعاليات وأنشطة مبادرة "أنت الحياة" بقرية نيدة بأخميم    أسعار النفط تسجل 65.94 دولار لخام برنت و61.95 دولار للخام الأمريكى    تنفيذ إزالة التعديات على أملاك الدولة والأراضي الزراعية بكفر الشيخ    أبو الغيط يدين خطوات الاحتلال نحو ضم أراضٍ فلسطينية بالضفة    حصيلة ضحايا الحرب على غزة تتجاوز 238 ألفا و600 شهيد وجريح    7 أخبار لا تفوتك اليوم الخميس 23- 10 - 2025    باسم مرسي: تألق بن شرقي وزيزو؟.. المنافس لديه 8 مليارات.. والزمالك مديون    هانيا الحمامي ويوسف إبراهيم يتأهلان لنصف نهائي بطولة كومكاست بيزنس للاسكواش    نادي الصحفيين يستضيف مائدة مستديرة إعلامية حول بطولة كأس العرب 2025    الداخلية تضبط سائق ميكروباص قاد السيارة بباب مفتوح في سوهاج (فيديو)    الأحد .. ندوة وورشة عمل "في الحركة حياة" بمكتبة الإسكندرية    هاملت وأشباحه يحصد المركز الأول بملتقى شباب المخرجين    حكم الشرع في خص الوالد أحد أولاده بالهبة دون إخوته    وزير الصحة يستعرض تنسيق الجهود لتقديم خدمات صحية لمرضى فلسطينيين    الألم وتيبس المفاصل والإحمرار.. أهم أعراض التهاب المفاصل الروماتويدى    ب«لافتات ومؤتمرات».. بدء الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب في الوادي الجديد (تفاصيل)    بيتصرفوا على طبيعتهم.. 5 أبراج عفوية لا تعرف التصنع    لقاء حول نظام البكالوريا الجديد خلال زيارة مدير الرقابة والتفتيش ب«التعليم» لمدارس بورسعيد    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في الشرقية    العثور على جثة «مجهول الهوية» على قضبان السكة الحديد بالمنوفية    تحرك شاحنات المساعدات إلى معبري كرم أبوسالم والعوجة تمهيدًا لدخولها غزة    فاليري ماكورماك: مصر مثال عظيم في مكافحة السرطان والتحكم في الأمراض المزمنة    الداعية مصطفى حسنى لطلاب جامعة القاهرة: التعرف على الدين رحلة لا تنتهى    اندلاع حرائق كبيرة بسبب الغارات الإسرائيلية على البقاع    النيابة العامة تنظم دورات تدريبية متخصصة لأعضاء نيابات الأسرة    البيطريين: إجراء تعديلات شاملة لقانون النقابة وطرحها لحوار مجتمعي    طريقة عمل الأرز البسمتي بالخضار والفراخ، وجبة متكاملة سريعة التحضير    الداخلية تواصل حملاتها لضبط الأسواق ومواجهة التلاعب بأسعار الخبز    رفع 3209 حالة اشغال متنوعة وغلق وتشميع 8 مقاهي مخالفة بالمريوطية    لعدم استيفائهم الأوراق.. الهيئة الوطنية للانتخابات تستبعد 3 قوائم انتخابية    عندنا أمم إفريقيا.. محمد شبانة يوجه رسالة هامة ل ياسر إبراهيم    حنان مطاوع بعد فيديو والدها بالذكاء الاصطناعي: "اتصدمت لما شوفته وبلاش نصحي الجراح"    رانيا يوسف تكشف الفرق الحقيقي في العمر بينها وبين زوجها: مش عارفة جابوا الأرقام دي منين!    السادة الأفاضل.. انتصار: الفيلم أحلى مما توقعته ولا أخشى البطولة الجماعية    نقابة السجون الفرنسية تندد بوجود ضباط مسلحين لحراسة ساركوزي داخل السجن    بسعر 27 جنيهًا| التموين تعلن إضافة عبوة زيت جديدة "اعرف حصتك"    البنك الأهلي يحصد شهادة التوافق لإدارة وتشغيل مركز بيانات برج العرب من معهد «Uptime»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في محافظة الأقصر    عاجل- قرارات جديدة من رئيس الوزراء.. تعرف على التفاصيل    حجز الحكم على البلوجر علياء قمرون بتهمة خدش الحياء العام ل29 أكتوبر    وزارة الدفاع الروسية: إسقاط 139 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    بشير التابعي: زيزو أفضل لاعب في الأهلي    الصحة توقع مذكرة تفاهم مع الجمعية المصرية لأمراض القلب لتعزيز الاستجابة السريعة لحالات توقف القلب المفاجئ    محمد صلاح.. تقارير إنجليزية تكشف سر جديد وراء أزمة حذف الصورة    كل ما تريد معرفته عن منصب المفتى بالسعودية بعد تعيين الشيخ صالح الفوزان    من بيتك.. سجّل الآن فى حج القرعة 2026 بسهولة عبر موقع وزارة الداخلية    ما حكم بيع وشراء العملات والحسابات داخل الألعاب الإلكترونية؟ دار الإفتاء تجيب    شبكة العباءات السوداء.. تطبيق "مساج" يفضح أكبر خدعة أخلاقية على الإنترنت    كنت بقلد فيلم أجنبي.. طفل المنشار بالإسماعيلية: أبويا لما شاف المنظر تحت السرير بلغ الشرطة    تامر حسين يوضح حقيقة خلافه مع محمد فؤاد بعد تسريب أغنيته    أستاذ علوم سياسية: القمة المصرية الأوروبية تعكس مكانة مصر ودورها المحورى    اتحاد الثقافة الرياضية يحتفل بنصر أكتوبر وعيد السويس القومي    سعر اليورو مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025 في البنوك المحلية    على أبو جريشة: إدارات الإسماعيلى تعمل لمصالحها.. والنادى يدفع الثمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الآية 21 من سورة "آل عمران" للشيخ الشعراوى
نشر في الفجر يوم 20 - 08 - 2015

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. [آل عمران : 21].
وقلنا إن الحق حين يقول: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} هم الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها، وهناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون.
إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق. إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين}.
ولنا أن نلاحظ هنا، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول.
إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء، وكل واحد من الأنبياء هو أسوة سلوكية، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد أسوة، ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد، لقلنا: إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه، لكن النبيّ أسوة في السلوك، فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم.
إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام، لماذا؟ لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين.
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين.
إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله.
إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله، ويسأل غير الملتزم نفسه: لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه.
لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.. [المطففين: 29-33].
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟ ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله: (خذنا على جناحك)؟ إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ}.. [المطففين: 30-32].
إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله. وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال. والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.. [المطففين: 33].
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.. [المطففين: 34-36].
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل: لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه (بغير حق)، وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟ لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق، وإذا كان الله قد قال: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} هذا القول الكريم قد أتى ليوضح واقعا، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لأنه ساعة يُقتل نبيّ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ، وكانوا معه لابد لهم أن يغضبوا ويحزنوا.
إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا، وبالنسبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال.
لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه رسول أيضا. وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم.
إذن، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا. ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.. [المائدة : 67].
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه، والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن الذين يقتلون الأنبياء، وأراد أن يطمئن المؤمنين، ويطمئن الرسول على نفسه، وأن يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله، فيقول الحق: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.. [البقرة: 91].
ولماذا يأتي الله ب (من قبل) هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد صلى الله عليه وسلم أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله، لكن هذه المسألة صارت منتهية، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله، وبذلك طمأن الحق المؤمنين، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى، ولذلك قال الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}.. [المائدة: 67].
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ}.. [البقرة: 91].
ولو أن المسألة مسألة نبوة، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم، وكان إنكارهم لرسالته عنادا، لكانوا قد قالوا: إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند من قبل لأننا سنجعلها من بعد أيضا، لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من ذلك، وذلك من مناط قدرة الله.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء، وقتل الذين يأمرون بالقسط، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء، وقتلهم للذين يأمرون بالقسط.
وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، إنه تقريع وتساؤل. كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء لينكروا عليهم ذلك، فقتلوهم، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.. [آل عمران: 21].
لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر، كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن، ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة.
لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟ لأننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الآية، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا. فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب.
وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم، رغم أن البشارة غالبا ما تكون إخبارا بالخير، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة (أبشر) فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول: أبشر بعذاب أليم، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم ابتداء مطمع (فبشرهم) وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد، لأن الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول: (فبشرهم) لكان وقوع الخبر المؤلم هينا.
لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا، ومثال لذلك قول الحق: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}.. [الكهف: 29].
إنهم يستغيثون في الآخرة، ويغاثون بالفعل، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي الوجوه. إننا ساعة أن نسمع (يغاثوا) قد نظن أن هناك فرجا قادما، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه. وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء القتلة. {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وكلمة (عذاب) تعني إيلام حيّ يحس بالألم. والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما، أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب، وقول الحق: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يلفتنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}.. [النساء: 56].
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب. وبعد ذلك يقول الحق: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.