يبدو أن لكل إنسان من إسمه نصيب ، ينطبق ذلك، إلى حد كبير ، على الكاتب والناقد السينمائي والمخرج المسرحي رفيق الصبان الذي كان رفيقاً في نقده ، رقيقاً في إختلافه ، حانياً في قلمه .. يستخدم ، في مقارباته النقدية ، مشرط جراح .. لايقسو على فنان أو فنانة .. يتلمس دائماً المناطق المضيئة في الأعمال الفنية ويمثل قوة دافعة لشباب السينمائيين وكبارهم .. لم تخل كتاباته المتنوعة من لمسة مجاملة رقيقة .. إمتلك إسلوبه المتفرد الذي يمزج بين شاعرية اللغة التي إمتلك ناصيتها ، وذكاء التناول ، ورحابة الأفق وسعة الصدر وموسوعية الثقافة .. من الممكن أن تختلف مع آرائه ، قليلاً أو كثيراً .. لكنك لاتملك إلّا الإعجاب بهذه القدرة الفذّة على الإقناع من خلال السباحة الماهرة بين الفنون المختلفة ، تعضيداً لرأي ، أو إثباتاً لموقف . كان الصبان ( 1934-2013) ناقداً فنياً بالمعنى الشامل الدقيق للكلمة .. سينمائياً وتشكيلياً ومسرحياً وموسيقياً .. يتذوق فنون العمارة .. ويغيب في أجواء الأوبرا .. يسمع ويستمتع بعقل يقظ ، ويمتعنا معه بكتاباته عن الباليه .. وعى رسالة الفن وعشق الحرية بأوسع معانيها ، ودفع ثمن ذلك إستبعاداً من مسقط رأسه بسوريا التي قضى بها ما يزيد عن ثلاثين عاما مخرجا مسرحياً متألقاً يقدم روائع المسرح العربي والعالمي ، ويلعب دوره في تعميق الوعي ، مما أغضب النظام الحاكم حينئذٍ، فرحل إلى مصر التي فتحت له - كالعادة- ذراعيها تحتضن قدراته وموهبته وعاش بها بقية عمره .. سورياً بهوى مصري ، وعروبياً خالصاً .
خلال فترة الستينات كان الشاب المتوهج قد نجح - بثقافته - في تعميق صداقاته مع العديد من كبارالكتاب والشعراء والنقاد والسينمائيين من بينهم الشاعر صلاح عبد الصبور والناقد رجاء النقاش والشاعر والكاتب المسرحي نجيب سرور والمخرج صلاح أبو سيف وغيرهم من المثقفين والفنانين المصريين الذين عايشوا محنته مع النظام السوري وتفهموا رغبته في الهجرة من سوريا ، ورحبت به الأوساط الثقافية ومنحه رجاء النقاش- رئيس تحرير مجلة الكواكب - مساحة بالمجلة لكتابة مقال نقدي أسبوعي ، وإتسعت صفحات نشرة نادي القاهرة للسينما لدراساته وترجماته .. وإنطلق مسلحاً بوعي ناضج وثقافة عميقة ، مساهماً في الحلقات النقاشية والتجمعات والجمعيات السينمائية، والمهرجانات المحلية والعربية والدولية .. وخلال مدّة وجيزة ، ترسخ إسمه كناقد كبير متمكن من أدواته ، ثاقب النظرة ، نافذ البصيرة ، بليغ العبارة بالعربية مع إتقان تام للغتين الإنجليزية والفرنسية وهو ما أهله لأن يكون مترجما بارعاً ودقيقاً ، فلم تمض سنة حتى أصبح واحداً من أسماء قليلة تنير سماء النقد السينمائي العربي .
إتسمت حياته بالدأب الشديد والحرص على متابعة كل جديد ، وربما كان ذلك سببا في إقدامه على الإنتاج السينمائي وإكتشاف موهبته في كتابة السيناريو التي تفجرت في أول وأهم أعماله « زائر الفجر » 1971للمخرج الذي رحل في ريعان شبابه ممدوح شكري .
كان « زائر الفجر » أولي بشائر الهجوم المباشر والصريح على أجهزة عبد الناصر الأمنية التي ما زالت في السلطة بعد وفاته في سبتمبر 1970 وتولي أنور السادات .. جاء الفيلم تعبيراً سينمائيا عنيفا ضد توغل تلك الأجهزة وتأثيرها المرعب على الحياة في مصر ، لكن السيناريو الذي تشارك الصبان مع مخرجه في كتابته، جاء محمَّلاً بجرعة إنتقادية حادة تتجاوز حدود المسموح بالنسبة لهذه الأجهزة في تلك الفترة فقد أدان بشكل الإنتهاكات الهمجية التي تمارسها وأشار بشجاعة إلى أن " حاميها .. حراميها " فانهال مقص الرقيب على مشاهده بتراً وتمزيقا وصل إلى حذف عشرين دقيقة ، مما أدى إلى وفاة مخرجه الشاب كمداً ، ولم يسمح بعرضه إلّا في عام 1975 ، لذا لم يكرر الصبان تجربة الإنتاج مرة ثانية ، لكنه تقدم بثبات ككاتب سيناريو ليمنح تاريخ السينما المصرية ما يقرب من ثلاثين فيلماً متعاوناً مع عشرات الأسماء من كبار المخرجين بإتجاهاتهم الفنية والفكرية المختلفة ، بل والمتباينة أحياناً من حسام الدين مصطفى إلى يوسف شاهين مروراً بعاطف سالم وحسين كمال وإيناس الدغيدي وأشرف فهمي وعاطف الطيب ، وانطلق ينهل من التراث الأدبي العالمي مروِّضاً النصوص للواقع المصري ، محاولاً إخضاعها لرؤيته، ورؤية مخرجيها ، الخاصة ، فكتب « الإخوة الأعداء » عن رائعة ديستويڤسكي " الإخوة كارامازوف" و« البؤساء » عن تحفة ڤيكتور هوجو ، وعن مسرحيات تنيسي وليامز قدم « قطة على نار» و«الزمار» و«الرغبة » وشارك شاهين في سيناريو «المهاجر » ومنحنا « ليلة ساخنة » للمبدع الراحل عاطف الطيب ، وصوّر برهافة حياة عميد الأدب العربي طه حسين في « قاهر الظلام » .
ربما لم تطاول بعض كتاباته للسينما قامته النقدية المتفردة التي منحتنا مئات المقالات التي تمثل حالة إبداعية موازية للأعمال الفنية ، وجعلته يتبوأ مكانة خاصة ومتميزه في تاريخ النقد السينمائي العربي ، إضافة إلى دوره الهام ، والأقوي تأثيراً كأستاذ لمادة السيناريو بالمعهد العالي للسينما وتدريبه لطلابه على التمسك بحقهم الكامل في حرية التعبير ، وإصراره على فتح نوافذ الثقافة السينمائية لكل المدارس والإتجاهات والتوجهات لينهلوا منها ،وأعتقد أنه قد ترك - قبساً من روحه- في وجدان كل من إقترب منه أو تتلمذ على يديه ، وهو ما قد تفتقده الأجيال القادمة من طلبة المعهد ، ونفتقده نحن أيضا صديقاً وأستاذاً فاض بعلمه، وحبه ، على الجميع .