فى 26 يونيو عام 1957 نشرت صحيفة «المساء» خبرا يقول: «يصدر قريبا ديوان جديد للشاعر صلاح جاهين، والديوان يحمل اسم (الكلمة الحلوة)، وسينشر مع النوتة الموسيقية لبعض أغانى صلاح جاهين». وبغض النظر أن هذا الديوان صدر أم لا، أو صدرت معه نوتة موسيقية من عدمه، وفى غالب الظن أن هذا الديوان لم يصدر، حيث إننى لم أصادف به على الإطلاق فى رحلة البحث الدائمة عن تراث جاهين، ولم يصادفنى كذلك خبر بأنه صدر عن أى دار نشر أخرى، ولكن الذى أنا أثق فيه أن ديوانين قد صدرا لصلاح جاهين فى ذلك الوقت، الأول هو «كلمة سلام»، ثم بعده «موال علشان القنال». وهنا لا بد أن نتحدث عن دار الفكر التى أعطت فى تلك الفترة إبداعات وكتابات كثيرة وطليعية لشعراء وكتاب قصة ومفكرين، من بينهم صلاح جاهين، وبالأحرى أن نتحدث عن أحد فرسان هذه الدار -فى تلك المرحلة الخمسينية- وهو الشاعر كمال عبد الحليم، الذى كان له الدور الأول فى إصدار تلك الإبداعات، وهو الذى كان مشغولا بحالة صلاح جاهين المتوهجة بقوة فى تلك الفترة. وللأسف تم اختصار كمال عبد الحليم فى النشيد أو الأغنية الرائعة، والتى يقول مطلعها: (دع سمائى فسمائى محرقة دع قنالى فمياهى مغرقة واحذر الأرض فأرضى صاعقة هذه أرضى أنا وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا). وفى ذلك الوقت كانت هذه الأغنية تلعب دورا حماسيا كبيرا فى تحريض الجماهير لكراهية الاستعمار، خصوصا بعد أن أنشدتها الفنانة فايدة كامل بصوتها القوى، وكانت الأغنية إحدى الروائع التى انطلقت فى أثناء العدوان الثلاثى الغادر على مصر عام 1956، ورغم أن الأغنية كتبت فى هذه المناسبة، فإنها أصبحت إحدى أيقونات إبداعات المقاومة حتى الآن. والذين انشغلوا بهذه الأغنية، وتم حبس كمال عبد الحليم فيها، لم يدركوا أن عبد الحليم ينطوى على تاريخ نضالى عريق منذ منتصف الأربعينيات، عندما كان يكتب قصائد تخيف الدولة نفسها، وكان مدهشا أن تعبر الحكومة بلسان رئيسها عن قلقها لهذا الشعر الذى كتبه شاب صغير السن، وحينها، أى عام 1946، وقف إسماعيل صدقى رئيس الوزراء الجلاد فى البرلمان، وأمسك بديوان «إصرار» للشاعر كمال عبد الحليم، منوها بأن ثورة تحدث فى الشارع، وأن هذا الديوان دليل قاطع على ذلك، وبعدها طالب باعتقال المئات من الكتاب والمثقفين والمبدعين، وكان على رأسهم سلامة موسى ومحمد مندور ومحد زكى عبد القادر وأنور عبد الملك، وبالطبع صاحب الديوان الشاعر الشاب كمال عبد الحليم، وفى 11 يوليو من العام نفسه، تم إغلاق عدد كبير من الصحف والمجلات وأبواب الروابط والاتحادات والنوادى، كما يذكر غالى شكرى فى كتابه «الثورة والثورة المضادة». وبعد خروجه من السجن واصل عبد الحليم نضاله مع رفاقه فى منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو»، وأنشؤوا «مكتب الأدباء والفنانين» الذى قاده عبد الحليم، وضم شبابا من أجمل زهور تلك المرحلة، منهم جمال كامل وحسن التلمسانى وصلاح جاهين وحسن فؤاد وعبد الرحمن الخميسى وصلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوى وعبد المنعم القصاص وغيرهم، حتى بعد أن قامت ثورة 23 يوليو عام 1952، وحدث التقارب المؤقت بين الثورة وتيارات اليسار، ونشأت دور نشر يسارية، كانت فى مقدمتها دار الفكر، وهى الدار التى أصدرت ديوان صلاح جاهين الأول «كلمة سلام»، وكتب على غلافه «قصائد شعبية»، إذ إن مصطلح «شعر العامية» لم يكن قد ترسخ بعد. ونشرت دار الفكر تعريفا اجتماعيا شاملا بالشاعر صلاح جاهين صاحب الديوان فى بطن الغلاف الأول، ثم نشرت تعريفا آخر للفنان هبة عنايت، الذى أنجز رسومات الديوان، وكانت كلمة التعريف بصلاح جاهين تقول: «ولد فى 25 ديسمبر 1930.. حصل على الجائزة الأولى فى الرسم فى مسابقة التوجيهية.. حصل على التوجيهية سنة 1947، ثم توزع بين الفنون والحقوق والعمل كرسام محترف فى الصحف.. عضو فى لجنة الفنانين.. تنقل فى أغلبية مديريات القطر المصرى، وزار غزة واشتغل فى جدة.. كانت أولى قصائده بالعامية عن الفلاحين بعد محاكمة (بهوت).. (ياللى قاعدين على المصاطب).. متزوج بفنانة.. رسامة.. عضو فى نقابة الصحفيين..». وعدا هذا التعريف، فجاءت المقدمة الشاملة والمجهولة بالنسبة إلى كثير من عارفى بسيرة صلاح جاهين، التى كتبها الشاعر كمال عبد الحليم، وهى المقدمة التى عرّفت بصلاح جاهين الشاعر والفنان والتاريخ، رغم أن عمره لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين، بدأ عبد الحليم مقدمته قائلا: «عام 1946 كانت مدافع الحرب قد سكتت.. ولكن سحاب القنبلة الذرية كان يلوّث الأرض والبحار، وينتشر فى الفضاء.. عام 1946.. كانت مصر تغلى بالثورة على الاستعمار وأعوانه، والاستعمار وأعوانه يفتكون بالشعب ويلقون بالطلبة الثائرين من فوق كوبرى عباس إلى النيل.. عام 1946.. كان صلاح طالبا فى المنصورة الثانوية، والمنصورة ثائرة تحتج على مذبحة كوبرى عباس.. وسقط شهيد.. وسقط شهيد.. ووقف يرثى الشهيد: (كفكفت دمعى فلم يبق سوى جلدى ليت المراثى تعيد المجد للبلد صبرا فإنا أسود عند غضبتنا من ذا يطيق بقاء فى فم الأسد). عام 1946.. وكان فى السادسة عشرة من عمره، وكانت هذه أولى قصائده». جاء هذا فى مستهل مقدمة طويلة، كتبها الشاعر كمال عبد الحليم للشاعر صلاح جاهين، ويعزّ علينا أن تختفى هذه المقدمة من الكتابات التى تناولت جاهين بالنقد والتأريخ، رغم أهميتها القصوى فى مسيرة الشاعر.