حفنة من أعداء الحضارة والإنسانية تجمعوا تحت جنح الظلام فجر الجمعة الماضى، وبدلا من أن يذهبوا للصلاة والدعاء لأهلهم وبلدهم بالحب والرحمة، قفزوا مثل اللصوص من فوق أسوار مدينة السينما بشارع الهرم، أو دخلوا بمعاونة متواطئين من أفراد الأمن، وربما يكون بينهم بعض أفراد الأمن، وسكبوا عبوات من الكيروسين فوق تمثال رائد السينما المصرية المخرج محمد كريم وأشعلوا فيه النيران! هؤلاء الصبية لا رادع لهم، تترك لهم إصبعك فيسعون وراء ذراعك، وتترك لهم الدنيا فيطاردون روحك، ولأن قادة هؤلاء الصبية فى أمن الدولة، برعاية نظام الجنرالات، شجعوهم وحرضوهم على إثارة الفتن والقلاقل بعد ذهاب مبارك، بينما راح أمراؤهم وممولوهم فى إقطاعيات الخليج يغدقون عليهم ريالاتهم ودنانيرهم بلا حساب، فالحساب يجمع، والمقابل هو رأس الثورة شخصيا، ومن ثم وجد الشباب الحمقى وشيوخهم من أصحاب الكروش الواسعة وليمة كبرى فتوحشوا وتفحشوا ولم يعد أحد يملأ عيونهم. ولأن وزير الثقافة السابق، على عادة المثقفين القدامى من أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، اعتقد أنه يمكن أن يداهنهم ويناورهم.. حين راح بعض من يطلقون على أنفسهم «سلفيين» من أصحاب الجلابيب واللحى فى حى العمرانية يتوعدون ويهددون ويطالبون بمنع تدشين تمثال محمد كريم فى الميدان المواجه لأكاديمية الفنون ومدينة السينما ومعهد السينما وقاعة سيد درويش.. وقتها استجاب وزير الثقافة لهتافات وصراخ الصبية ومحركيهم فى البرلمان من حزبى «العدالة والحرية» و«النور»، مما دفعه إلى الأمر بنقل التمثال داخل مدينة السينما، فى الحديقة المواجهة لجهاز السينما. ولكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع لا.. ولأن الإنسان عدو ما يجهل، ولأن هؤلاء الصبيان جهلة بالعلم والفن والثقافة والتاريخ والدين أيضا، ولأنهم مكلفون بافتعال المعارك الوهمية للفت الأبصار والبصائر عن الجرائم الكبرى التى ترتكب فى حق البلد وناسها، ولأنهم لم يجدوا وزيرا ولا أمناً ولا مثقفين يوقفونهم عند حدهم ويضربون على أيديهم وعقولهم الصدئة بما يستحقونه من خطاب ومعاملة، فقد واصلوا مطاردة التمثال إلى ما وراء جدران مدينة السينما! هل تصدق أنهم أرسلوا تهديدات للموظفين بالمدينة يدعونهم فيها إلى تحطيم التمثال حتى لا يصيبهم مكروه؟ هل تصدق أن «البكوات» من موظفى الأمن ردوا بوقاحة على أسئلة رئيس جهاز السينما سمير فرج نافين مسئوليتهم عن حرق التمثال، قائلين إن الحريق «أمر سياسى» لا يخصهم، وهل تصدق أن «الباشوات» من مسئولى الجهاز والمدينة لم يتقدموا ببلاغ للنيابة بالواقعة حتى الآن.. خوفا من الصبيان المجرمة؟! هل تصدق أن كل هذه التهديدات والبوادر المقلقة لم تدفع المسئولين إلى اتخاذ بعض الاجراءات الأمنية الاستباقية؟ قبل واقعة حرق التمثال بعدة أيام لاحظ السيناريست والموظف بجهاز السينما هيثم يوسف شابا ملتحيا يدور حول التمثال ويقوم بتصويره بكاميرا الموبايل من عدة زوايا. استغرب هيثم مما يفعله الشاب، وكيفية دخوله للمدينة فى غيبة الأمن، علما بأن موظفى الأمن يطاردون كالذباب أى زائر للمدينة، فتقدم منه وسأله: لماذا تقوم بتصوير التمثال؟ هل يعجبك؟ فأجابه الشاب: لا يعجبني. فسأله هيثم مجددا: هل تدرس الفنون؟ فأجاب الشاب بغلظة: وهل هذا التمثال فنون؟ قبل أن يسرع بالفرار من المكان. هل هناك متواطئون من موظفى جهاز ومدينة السينما أنفسهم؟ ربما، فالرجعية والأفكار المتخلفة وصلت وتغلغلت فى أكاديميات ومعاهد الفنون من زمان، ولكن كل هذا لا يفسر بعض الألغاز المرتبطة بالواقعة. أولها سبب إعلان متحدث باسم الأكاديمية، وهو عمر زكى، نائب مدير قسم الدراسات العليا، بأن واقعة الحرق لم تحدث، رغم وجود شهود كثيرين، على رأسهم التمثال المحترق نفسه، الذى تعرض لضرر كبير يحتاج لمعالجة وترميم، وبينهم السيناريست هيثم يوسف والدكتور مختار يونس الذى قام بتصوير التمثال بعد الحادث مباشرة.. علما بأن لدينا معلومات مؤكدة عن اشتعال النار فى التمثال وقيام رئيس الجهاز بفتح تحقيق داخلى فى الحادث! ثانى الألغاز هو سر استهداف هذا التمثال تحديدا، علما بأن شارع الهرم نفسه يحتوى على تماثيل أخرى على رأسها تمثال ضخم أمام بوابة مدينة الفنون، لماذا لم يعتدوا على التماثيل الأخرى؟ ولماذا لا يهجمون هجمة رجل واحد على القرية الفرعونية أو تمثال أبا الهول؟ هل هناك أعداء للفنان أسامة السويرى الذى قام بنحت تمثال كريم؟ ولماذا قام المتسللون بحرقه وليس تحطيمه؟ الأسئلة العبثية كثيرة، ولكن أخطرها هو: هل الهدف هو إثارة زوبعة محدودة المساحة والتأثير؟ هل «السلفيون» الذين اعتقل عدد كبير منهم خلال مذبحة العباسية وقبلها وبعدها، ويجرى تعذيبهم وإذلالهم فى المعتقلات حاليا، بدرجة تفوق ما كانوا يتعرضون له أيام مبارك، هل هؤلاء من التفاهة والهيافة التى تدفعهم لاستهداف تمثال غلبان وراء الجدران، بدلا من الاحتشاد والضغط للدفاع عن زملائهم المعتقلين؟ هل هناك من يلعب لعبة «الإرهابى المتطرف» نيابة عن «السلفيين»، بمعاونة بعض الجهلة منهم غالبا؟ نكتب كل يوم عن واقعة وتفصيلة، وتستهلكنا نفس الحكايات القديمة المملة، وللأسف ينجح الذين «يشتغلوننا» فى إلهائنا عن الصراع الحقيقى بيننا وبين النظام.. فهل سنظل نلدغ من نفس الجحر ستين عاما أخرى؟!