فى شهر مارس 1242، دخل شمس التبريزى بعقيدة الدرويش ونية الزاهد حانة فى سمرقند، فأثار حفيظة الموجودين بهيئته المُختلفة، وبات سؤال واحد هو كل ما قفز إلى أذهانهم فى تلك اللحظة.. ما لرجل صوفى يبحث عن وجه الله فى آيات الكون بفاعل فى حانة يحتلها السكارى وفتيات الليل؟.. وأجاب: « جئت أبحث عن الله».
فرد صاحب الحانة:
«إذا فإنك تبحث عنه فى المكان الخطأ، لقد هجر الله المكان! ولا نعرف متى سيعود!»
سقط قلب شمس عندما سمع كلمات الرجل وعاد يقول موضحا مقصده:
« ألا يقول الله (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فالله لا يقبع بعيدا فى السموات العالية، بل يقبع فى داخل كل منا، لذلك فهو لا يتخلى عنا، فكيف له أن يتخلى عن نفسه؟»..
وهكذا سطر القاعدة الأولى من القواعد الأربعين فى عشق الله..
«إن الطريقة التى نرى فيها الله ما هى إلا انعكاس للطريقة التى نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب لعقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعنى أن قدرا كبيرا من الخوف والملامة يتدفق فى نفوسنا، أما إذا رأينا الله مُفعما بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك»..
إنها قصة عرفها البعض وبكل أسف جهلها الكثيرون، بغير أنها قصة تحمل بين طياتها حالة من الارتحال إلى منطقة الصفاء مع النفس التى ما أحوجنا إليها اليوم..
وُلد جلال الدين الرومى فى (بلخ) فى بلاد فارس ومنها انتقل ليستقر فى قونية، كان الرجل يُلقب ب «خُداوندكار» ومعناه «مولانا» أو «شيخنا»..
التقى جلال الدين الرومى صُدفة بشمس الدين التبريزى، الدرويش الجوال، الذى وصل قونية سنة 1244 م وأقام فى إحدى خاناتها منقطعًا إلى نفسه، وذات يوم، تعرَّض شمس لموكب الرومى ومريديه، وجرت بينهما محاورة قصيرة أغُمى بعدها على مولانا، وعندما استعاد وعيه، اصطحب شمسًا إلى المدرسة، وهنالك اعتزلا الناس فى خلوة مدتها أربعين يومًا، صار بعدها شمس الأستاذ الروحى للرومى، الذى ظل يحتفظ لأستاذه طوال حياته بحبٍّ وعرفان للجميل لا حدود لهما، بل وبلغ من قوة تأثيره أنه استحوذ على روح الرومى ومشاعره ولم يعد يصبر عنه، مما دفع مريديه (كما أُشيع) إلى اغتياله سنة 1247م، لأنه أحدث تغييرا كبيرا فى شيخهم ومولاهم!..
أنشأ الرومى الحفل الموسيقى الروحى المعروف ب «السماع»، ثم نظم فى ذكرى شيخه وأستاذه الروحى مجموعة من الأناشيد حملت اسمه فى (ديوان شمس التبريزي) وهى مجموعة أناشيد وقصائد تمثل الحب والأسى، وإنْ كانت فى جوهرها تنشد الحب الإلهى المقدس.
أسَّس جلال الدين الرومى فى تركيا الطريقة المولوية، ومن سماتها وخصائصها التى عُرفتْ بها الرقص المعروف أو السماع، الذى أعطى الأعضاء اسم «الدراويش الدوَّارين».. وهو طقس له رمزيته: فالثياب البيض ترمز إلى الكفن، والمعاطف السود ترمز إلى القبر، وقلنسوة اللباد ترمز إلى شاهدة القبر، والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة، والدورات الثلاث ترمز إلى الأشواط الثلاثة فى التقرب إلى الله وهي: طريق العلم والطريق إلى الرؤية والطريق إلى الوصال، وسقوط المعاطف السود يعنى الخلاص والتطهر من الدنيا، وتذكِّر الطبول بالنفخ فى الصُّور يوم القيامة..
هكذا عبر الرومى بتلك الرقصة عن حالة التصوف والتضرع إلى الله بدقات طبول تصاحبها دقات قلوب تهيم فى الكون لتبحث عن أسراره وتزهد فى مادياته..
لخص الرومى المعنى الحقيقى للتصوف كما تعلمه من التبريزى فى كلمات قال فيها:
«إذا سألتنى يا أخى، ما علامات الطريق، فسأجيبك بوضوح لا لبس فيه: الطريق أن تنظر إلى الحق وتُزهِقَ الباطل، ولا يكون التصوف حقيقيا ما لم يُحقق بطريقتين: التزام الشرع والبحث عن المعنى الباطنى، فالشريعة تختص بالشعائر والأعمال التعبدية، بينما تتعلق الحقيقة بالرؤية الباطنية للعظمة الإلهية، وتوجد الشريعة من أجل عبادة الله، بينما توجد الحقيقة من أجل التفكر فيه، وتوجد الشريعة لكى نطيع أوامره، بينما تجعلنا الحقيقة نفهم أوامره»..
تلك هى الحكاية التى نسجها رجُلان سرقا من الأيام الموعظة وتركا لنا عن العشق أربعين قاعدة، إنها حكاية تناقلتها الأجيال والتقطتها الروائية إليف شافاق ببراعة المؤلف الذى يبحث عن لون مختلف وقصة غير مألوفة لينسج منها تاريخا يبقى، ليس فقط على قائمة الأكثر مبيعا، بل فى قلوب القراء وذاكرة الأدب..