كان يا مكان يا سعد يا إكرام ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام.. يُحكى أنه فى بلاد الأقزام.. رزق الله أبناء تلك المملكة الكرام.. بحاكم قالوا عنه أنه هُمام.. يزعُم أنه فى كل الأمور يمتلك الزمام.. رجل جاء ليحقق كل الأحلام.. وشعاره فى الحياة لا تراجع ولا استسلام.. رجل لا يقول إلا معسول الكلام.. والسيف يكتب كلمته من بين كل الأقلام.. وقيل لهم وقتها أنه هدية الرحمن إليهم لإنقاذ كل الاقزام..
لكن وبخلاف كل التوقعات، فوجئ كل المنتظرين بالمكان المتشوقين لوصول الهُمام، بشخص قصير القامة قليل الحجم تافه الجوهر أسود الوجه قادما إليهم مُترجلا على قدميه.. لا يمتلك سيفا ولا رمحا ولا حتى مضرب دبان!
شعر القزم المُحتال بضآلة حجمه وسوء موقفه، فقرر أن يرسم دور الشرير القادر على إيذاء كل من يعارضه الرأى والقول.. ولكى يغير من مظهره الضعيف ويُدارى قصر قامته، أطلق شاربا كثا حتى يرسم لنفسه هيبة مُزيفة وحكمة غائبة..
فكر طويلا.. كيف يضع كل المُحيطين به من مُعارضين ومُؤيدين فى قبضة يده؟.. وأخيرا توصل إلى الحل الأكيد.. وهو أن يبحث لحلفائه عن نقاط الضعف ويستثمرها.. ثم يبحث لأعدائه عن نقاط القوة ويدمرها..
بحث القزم الواهم عن حاشية تقف فى ضهره لتسانده فى إشاعة الفساد..
فاستعان بقزم كان قد نام طويلا فى كهفه المهجور فى خنوع واستسلام بلا دور فعال، وعرض عليه أن يُخرجه إلى النور ويوكل إليه أعمالا تبدو وكأنها فى ظاهرها مهام جسام، وهى فى الحقيقة هُراء رخو بلا قوام.. والمُصيبة أنه حتى لا يمتلك فيها حق اتخاذ القرار لأن وجوده فى الصورة مثل فارس لا يمتلك الجواد.. والرجولة صفة لا يمتلكها الأغوات!.. فبات القزم الضعيف مُهددا بالعودة إلى قباء الظلام لو قرر يوما الحياد عن طريق الفساد.
وعاد القزم الواهم يبحث من جديد.. عن قزم آخر تكون لديه نقطة ضعف علها تصبح أداة للضغط عليه وقت اللزوم.. فوجد قزما غارقا فى الملذات، عبدا للمسكنات مما جعله ذليلا للقرش فلم تعد المبادئ بالنسبة له شيئاً يستحق الحرب، لأنه قرر وبدون تردد أن يبيع لمن يدفع أكثر! فأصبح مثل الراقصة التى تُعرى جسدها كلما زادت صيحات الرجال، التى لا تُبالى بنظرات الذين يشتهونها حين تنحنى لتلم النُقطة من على الأرض.
وفى رحلة بحثه الطويلة.. وجد القزم المكير قزماً آخر مُختلف الهيئة، فقرر أن يضمه لأعوانه، إنه قزم بصديري! ووافق القرد (عفوا أقصد القزم)! أن يتعلم الدرس ويصبح مُطيعا، فالمعلم يجب أن نقف له تبجيلا.. والقزم أبوصديرى ارتضى أن يجرى ليلتقط الفُتات إذا رماها لها سيده.. فالرضا درس تعلمه والسير بجوار الحائط طريق اختاره، وأذنه التى وظفها لنقل الكلام أصبحت سلاحه الوحيد فى معركة فرسانها أقزام لا يحملون رماحا ولا يركبون خيولا.. ولكنهم يرتدون فوق رءوسهم طراطير مزركشة!..
وهذا قزم آخر اختار أن يمسك الصاجات ويقرع الطبول ويرقص للترفيه عن سيده كلما شعر بالملل أو كلما بحث سيده عن ترفيه لم يجده فى مجالس الأنس التى احترف البحث عنها فى أحضان العاهرات! فالرقاص دائما يحتاج إلى طبال، ومن إذن غير هذا اللص الظريف قادر على ضبط إيقاع رقص السُفهاء؟
وبقيت وظيفة أخيرة شاغرة تقدم لها ألف قزم وقزم.. وهى وظيفة القائم على تستيف الأوراق المسمومة.. إلا أن القزم الأكثر جحودا ووصولا وتدليسا وتخليا عن مبادئه كان هو من فاز بالوظيفة! فما كان منه الا أنه باع الجميع وساوم الجميع وحاور الجميع.. وفى النهاية خسر الجميع.. وقبل الجميع وبعد الجميع خسر نفسه!..
فى الركن البعيد وقف باقى أقزام المملكة ينظرون إلى القزم الفاسد ولا ينطقون، صاروا مثل تماثيل الحجارة فى بلد تعبد الاصنام.. يمصمصون الشفاه ويتحسرون عن بُعد لكنهم لا يتحركون، لأنهم فى النهاية صُم عُمى لا يسمعون ولا يرون.. والأدهى من هذا وذاك.. أنهم بُكم لا يتكلمون!
استطاع قزم الأقزام أن يخلق من حوله حاشية تُشعره بالقوة وهو ضعيف، وتهتف باسمه وهو فاشل، وتروج لأفكاره العطنة حتى ابتلعها الجميع متصورين أنها فاكهة الجنة وهى فى الواقع سُم محموم..
وكان على القزم أيضا أن يضمن بقاءه على قمة السفح الذى تصور واهما أنه جبل النجاح، فكانت درجاته هى تلك الجُثث المتهالكة من الطامعين والمشتاقين.. فأطعم الجعان منهم بالحرام، وداوى المريض منهم بالباطل، وكسى العارى منهم بلباس الزور.. فكسر نفوسهم وأزل كبرياءهم وسجنهم فى سجون الانكسار.. وحين لفظوا أنفاسهم الأخيرة اعتلاهم سُلما للصعود إلى الأسفل!
وفى خضم فساد الحاشية نسى قزم الأقزام مظالم الفقراء ودعوات المحتاجين، وأغلق ديوان المظالم فى وجه المتضررين، وداس بجشع على كل مصالح رعيته ونسى فى خضم جبروته الزائف أن دعوة المظلوم تصل دون حجاب إلى عنان السماء، ونسى أن دولة الظلم لو انتصرت ساعة فدولة الحق لسوف تنتصر كل ساعة.
واكتشف القزم صدفة وسط أعوانه الأقزام، أن هناك مجموعة من العمالقة يعيشون فى قصر منيف على أطراف المدينة.. حاول الأقزام قهرهم مرارا ففشلوا.. وحاولوا توريطهم كثيرا فيئسوا.. وحاول اغتيالهم فرد الله كيدهم فى نحورهم فسقطوا.
وقف القزم الصغير أمام أحد العمالقة ممسكا بسيف من ورق، وسأله وهو يرتجف على الرغم من شاربه الكث وتاج المملكة الذى يضعه فوق رأسه ولا يراه سواه:
«كيف أصبحتم أنتم عمالقة فى بلاد كل من فيها أقزام؟»
رد العملاق باسما راضيا مُستهينا به:
«لقد طالت قامتنا وارتفعت رءوسنا بما نمتلك من قوة منبعها الصدق وثبات أصله العدل»
«ومن أين لكم بهذا القصر المنيف الذى تحتمون به؟»
«إن حوائط القصر ترتفع كل يوم بكلمة حق تشبثنا بها وكلمة باطل تصدينا لها، وحروب من أجل الحرية خضناها دون خوف ولم نتراجع عنها برغم كل الضغوط».
ألقى القزم سيفه بعيدا ونكس رأسه وانصرف.. وعلى الرغم من أنه لم يفهم المعنى الحقيقى لكلمات العمالقة، إلا أنه فى تلك اللحظة فقط أدرك الحقيقة التى خفيت عنه طويلا.. وهى أنه.. مُجرد قزم ولو شب على أطراف أصابعه.. قزم ضئيل بلا كيان.. ويبقى عزاؤه الوحيد أنه قزم فى بلاد الأقزام.
وتوتة توتة فرغت الحدوتة.
هذه القصة ليست من وحى خيال كاتب محترف.. ولا أسطورة تاريخية قرأتها فى كُتب الأساطير الإغريقية.. لكنها قصة وطن.. وقصة أفراد كانوا ومازالوا جزءاً من حكاية هذا الوطن..
فالأقزام حولنا مازالوا يعيشون ويرتعون.. يبحثون عن مأوى فى دولة الحُلم الزائف..
أنا هنا أتحدث عن طبيب فاشل وسط أطباء محترمين.. أو رئيس دولة فاشل فى دولة تستحق الحياة.. أو مدير مؤسسة فاشل وسط رعية وشللية تحتضن فساده.
والحقيقة المُرة.. أن كلهم أقزام.. فالأقزام يا سادة مازالوا يعيشون بيننا بسيوفهم المعقوفة ودروعهم الورقية وأضغاث أحلامهم فى أن يصبحوا عمالقة فى بلاد الأقزام.
ولكن هيهات.. فالقزم وسط الأقزام عملاق.. ولكنه بين العمالقة مُجرد صرصار!.
ستبقى المعركة بيننا دائرة.. ولن تخمد أبدا.. طالما كان هناك ليل يعقبه نهار.. وباطل يقهره حقٌ.. وظلم يكسره عدل.. وحرب يهزمها سلام.