يقول صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلىّ أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون. وإن أبغضكم إلىّ المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة المتلمسون للبرآء العيب فى هذه الحياة". ففى هذه الحياة هناك أناس لا يعرفون إلا الشر والمشى بين الناس بالنميمة ويتلمسون للبرآء العيب يحاربون كل فضيلة ويطمسون كل قيمة عليا من غيرهم.. يقزّمون العظيم لأنهم لا يستطيعون فعله ويعظّمون كل حقير وقزم لأنه من إنتاجهم، وهناك فرق شاسع بين النقد البناء والسفه الردىء وسب الناس بغير جريرة لأنهم يخالفونك فى الرأى.. وإذا أردنا أن نضرب فى ذلك مثلا يظهر الأمر بين النصح العظيم والسفه اللئيم والنقد البناء والنقد الردىء، ومن النقد البناء موقف سيدنا عمر، رضى الله عنه، عندما اعترض على الرسول فى صلح الحديبية عندما تحدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى صلح الحديبية حديثا جاء فيه أن عمر رضى الله عنه كان غير راض بهذا الصلح، فذهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: ألست نبى الله حقا؟ قال بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال بلى.. قال: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذن؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنى رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصرى. وهذا النقد كان يعد شديدا من الصحابى الجليل عمر رضى الله عنه، ورغم شدته إلا أنه بأدب واحترام. ومثل آخر لنقد سفيه والتماس العيب للبرآء هذا أبو لهب فانظر إليه عندما وقف الرسول يدعو الناس إلى الله عند الصفا ذهب إليه أبو لهب وشن حربا شعواء على رسول الله وقام بدور شيطانى، ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ينادى ويقول يا صباحاه.. اجتمعت إليه قريش فقال الرسول: أرأيتكم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم.. أكنتم مصدقى؟؟ قالوا: نعم.. فقال: "فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد"، فقام أبو لهب ينفض يديه ويقول: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فرقٌ شاسع بين أن تنتقد شخصا أو جماعة أو حزبا.. وبين أن تسلط لسانك على الناس بالحق والباطل.. فالمسلم ليس طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا بذيئا. ولله در الإمام الشافعى الذى علمنا كيف نستفيد من أعدائنا، وهذا شأن أصحاب العقول النابهة؟ يقول رضى الله عنه: عُداتى لهم فضلٌ علىّ ومنة ... فلا أبعد الله عنى الأعاديا همو بحثوا عن زلتى فاجتنبتها .. وهم نافسونى فاكتسبت المعاليا قد تستفيد من العدو أكثر من الصديق؛ فالعدو يكاسرك بالنقد ولا يجاملك كالصديق فتطلع على عيوبك. والعدو ينافسك فيشحذ همتك على طلب الكمال والمبادرة إلى أشرف الخصال.. والعدو يتشفى بعثرتك.. فتصبر وتتجلد فتحصل على ثواب الصابرين.. والعدو يدلك على سيئتك فتستغفر منها ويخبرك بنقصك فتتلافاه.. والعدو يخبر الناس بخطئك فيذيع لك شهرة وأجرا وذكرا، وكلما خمل ذكرك تولى عدوك رفع أمرك وإعلان اسمك فى النوادى والمجالس، والعدو يترصدك فيجعلك يقظان دائما تتأمل العواقب وتعد العدة.. والعدو ربما يضايقك فيكفر من خطاياك وكل مصيبة تؤجر عليها إذا صبرت. قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت .. ويبتلى الله بعض القوم بالنعم وبعد هذا وذاك فلا يستوى الخبيث والطيب ولا الصالح والطالح وعزمات الكبار وعزمات الصغار؛ حيث إن بعض الرجال أصحاب همم كبار، يأتى الزمان بهم تعويضًا عن حِقب أجدبت من الرجولة، وأقفرت من العزمات، وتجود بهم الأمم بعد مخاض عسير، وآلام مبرحة، وأزمات شداد، لتبرهن بهممهم على معدنها الأصيل، ورحمها الطاهرة، ونفسها الأبية، تصنعهم الأمم صناعة متفردة، بالمعنى الرفيع الذى يفهمه المكافح من لفظة الرجل، ويلحظه المثقف من معنى الإنسان، ويعرفه المفكر بمقياس العظمة، لو حلّلتهم إلى عناصرهم الحقيقية، لتفرد لك الصدق، والإباء، والعمق، والعقل والعبقرية، والإبداع، والأمل، والعزم، والريادة، والأحلام الكبار، فهم كما يقول واصفوهم: (لا تطالع أحدهم من أية جهة إلا غمر نفسك بجلال العظمة، وشغل رأسك بخيال العبقرى، وأخذ حسك بروعة البطل، ليس كسائر الناس عظمته موضع الشذوذ فى بشريته، وعبقريته بعض الكمال فى نقصه، وقوته عرض متنقل فى ضعفه، وإنما عظمته أصل فى طبعه، وعبقريته فطرة فى خلقه، وقوته جوهر فى إرادته، ونبوغه قوة فى ملكته، فهو إبهار فى مواهبه، إشعاع فى عطائه، رقة فى جرأة، إنسانية فى شمم، قهر فى رجولة، خلق فى عظمة، يجمع فى كيانه عناصر الشخصية الجبارة التى تأمرك وكأنها تستشيرك، وتقودك وكأنها تتبعك، هم جزء من ثروة الأمة الحضارية على قلتهم، وصرح عظيم فى بنية الشعوب الفكرية على ندرتهم، وسند متين لقوة البلاد السياسية والدولية على ضآلتهم. وبعض الأقزام تخرجهم الأمم الهابطة علامة على تصحرها وجدبها ومواتها، كما تخرج البطون خبث الأطعمة، وتلقيهم الشعوب المريضة كما تلقى الجروح تقيُّحاتها النتنة، وتلفظهم الأيام العجاف كما تلفظ الأمواج الجيف المهترئة، فتضرب عليهم الأقدار الكئود بسهم من الضياع والتحلل!!، فما بالك إذا اجتمع هؤلاء فى أمة، واصطف هؤلاء فى شعب!! فلا شك أن الحياة تركلهم، والأمم تطاردهم، والزمان يواريهم التراب، لأنهم يسيرون فى الحياة كقطعان ضالة. قد تلحظهم فى كثير من الأمم المتخلفة، يعيشون فى أوطان من غير منهج، ودول من غير سياسة، وتجمعات بدون هوية، كتبت عليهم الذلة والمسكنة، وفرضت عليهم التبعية والعمالة، فقتلت فى نفوسهم العزم المستقل، والموهبة الرائدة، والفكر الناهض، والعقل النابه، فهم جموع من الناس، وأوزاع وأفواج تنظر إلى الأمم تعمل وإلى العالم تسير، بعيون بلهاء، وعقول خرقاء، لا تجد فى خواطرهم إشعاع أفكار متَّقدة، أو تجرى فى نفوسهم خواطر أحلام كبار، فهم والحق يقال، وباء فى الأمم، وجراثيم فى الشعوب، وتجدهم لا يقوم بهم أمر، أو تنتصر بهم أمة، يسيرون خلف قيادات رخوة، وسياسات مستكينة، وإرادات معطلة، رسالتهم متابعة هوى الغالب، ومنافقة إرادة الدخيل، ومصانعة أية دولة متسلطة!!، وقد تسائل نفسك: وهل لهؤلاء وأولئك أحلام، أو همم؟، لأن الرجال بالهمم وبالأحلام والحلوم، لا بالأجساد والجثث والبذات والرسوم، ولا يبنى الرجال إلا الهمم والآمال التى تُراود النفوس الكبار، يعيشون لها، وينعمون بها، ويموتون فى سبيلها هانئين راضين، تحققت أو لم تتحقق، جادت بها الأيام أم نبت عنها: مُنى إن تكن حقًا تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغْدَا أمانى فى نفسى رواء كأنما سقتك بها سلمى على ظمأٍ برْدَا وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم، وأمتنا أمة العزائم، وأمة الخلود والمجد والفروسية والبأس والأحلام الكبار والمنى العظام، تقتنص الشموس وتصارع الأفلاك، ويحكى التاريخ قول رسولها الكريم r لعمه حين أراد أن يثنيه عن غايته أو يقعده عن هدفه: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، ويقول فى مواجهة العواصف، وملاطمة الأمواج ومغالبة الكفر: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» ويبشر أصحابه المطاردين فى الفيافى، والمشتتين فى البلاد والصامدين تحت العذاب، بالفتح والنصر والتمكين وفتح بلاد كسرى وقيصر، وأحدهم لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده، ويُسمعهم الوعد الذى يعلو على الأحلام ويتفوق على الأمانى، ويتسامى عن الخيال فيقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى} (النور: 55). هذه العزائم الصدق هى التى بنت أمة طاولت النجوم، وهذّبت العواصف، وثبَّتت الجبال، ودان لها الأكاسرة والقياصرة وأنستهم وساوس الشيطان، وهذه الهمم هى التى رفعت ألوية التوحيد وطاردت الوثنية والفساد وعبادة الأهواء، وفتحت البلاد، وهدت العباد، حتى قال عقبة بن عامر، أحد قواد المسلمين يخاطب البحر: ( والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرضًا لخضتك بفرسى هذا غازيا فى سبيل الله)، وهنا يرفرف فوق الجميع تلك الكلمات التى قالها رسول الإسلام يخاطب الغيب، لأنه يعرف همم من ربَّى وعزائم من عَلَّم: «والله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولن يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام، يعز عزيزًا ويذل ذليلا، عزا بالإسلام وذلا بالكفر). هذه يا صديقى عزمات الكبار والعمالقة، أما الصغار فليست لهم عزمات أو همم، أو حتى حلوم، وإنما لهم فساد يطلقون عليه همة، وخراب يطلقون عليه قوة، وغرور وسفه يسمونه عزمًا: سريع إلى ابن العم يلطم خدَّه وليس إلى داعى الندى بسريع وتنقلب الأمور فيُصادَق العدو وتقتل الشعوب وتمتهن وتتسمى الأشياء بغير أسمائها و... يرى الجبناءُ أن الجبنَ حَزْمٌ وتلك خديعةُ الطبع اللئيمِ فبهذه المسميات الخرقاء تنتكس الأمم، وتذوق وبال سفه الصغار، فتصاب الشعوب فى حريتها فتصبر، وتُؤذى فى كرامتها فتستكين، وتُفتن فى عقيدتها فتستسلم لأنها فى رحاب الضعاف والأقزام. وهل تستوى يا صديقى عزمات الكبار والصغار؟ حقيقى لا تستوى!! وهل تستوى أممهم وشعوبهم وقيمهم؟ أبدًا لا يستوون، لا يستوون!!.