نهض «مؤمن» من نومه على صوت أذان الفجر مُسرعا.. توضأ وعاد يبحث عن سجادة الصلاة بكل همة ونشاط ليُصلى الفرض فى وقته. فمؤمن شاب مُتدين بطبعه، تربى فى منزل يتمسك بطاعة الله ويؤدى فروض الإسلام على أكمل وجه.. التحق بكلية الطب البيطرى إيمانا منه برسالة البشر نحو الحيوانات كمخلوقات لها روح وشعور.
مؤمن شاب يقطن منطقة شعبية اشتهر شبابها بالنخوة واشتهرت نساؤها بالجدعنة.. فهُم أهل ضد الغريب ويد واحدة وقت الشدة.. كان مؤمن واحدا منهم وكانت كلما جاءت سيرته، أثنى عليه الجميع.. إلى أن دخل كلية الطب وحدث هذا التحول الغريب فى حياته.. لقد انزوى واكتأب فأصبح أكثر شرودا، وازداد انطواءً وعبوسا.
فكان رده كلما صارحوه بشكوكهم أنه على ما يُرام، وأنه فقط أصبح أكثر تقرُبا إلى الله.
دخلت والدته عليه وهو يصلى فجلست على حافة الفراش تنتظره كى يُفرغ من صلاته..
«حرماً يا حبيبي»
«جمعا يا أمى إن شاء الله»
«أنت طول الليل قلقان، سامعاك رايح جاى فى الأوضة.. خير يابنى، مش جايلك نوم ليه؟»
«أبدا يا أمى.. أنا بخير والحمد لله.. مجرد لحظات مصارحة مع النفس»
صمتت الأم قليلا ثم قالت:
«شفت ولاد الحرام عملوا إيه.. بيقولك ضربوا نار على ناس مدنيين فى الجيزة وموتوا أبرياء مالهومش ذنب.. ربنا يحرق قلوبهم على ولادهم زى ما هم حارقين قلوب الناس.. يعنى ريس خاين وعميل، سنة بيحكم البلد لحد ما خربها، وأهله وعشيرته حالفين لا يحكموها لا يولعوها، ربنا يرد كيدهم فى نحورهم.. اللهم آمين».
تنهد مؤمن.. ثم تململ.. نظر إليها بعين حائرة ونظرات مرتعشة ورد فى صوت خفيض:
«لا حول ولا قوة إلا بالله».
قبل أن تغادر الغرفة.. التفت إليها يحتضنها ثم طبع قبلة على يدها وقال:
«ادعى لى يا أمى.. ادعى لى بالتوفيق.. اطلبى لى من ربنا الغفران والهداية والتمسك بطريق الحق».
«ربنا يفتحها فى وشك يابنى ويبعد عنك ولاد الحرام».
ركب مؤمن سيارته وانطلق مسرعا وهو ينظر حوله، متفحصا البشر السائرين فى الشوارع.. وسأل نفسه: (ما كل هذا العبوس الذى يبدو على وجوههم؟ لقد كانوا يمتلكون الفرصة للتغيير والوصول بوطنهم إلى غد أفضل، ضامنين لأبنائهم مستقبلا أكثر إشراقا.. لكنهم أبوا وأغلقوا عيونهم عن رؤية الحقيقة.. اختاروا أن يظلوا عبيدا على أن يحيوا كراما.. ليتهم يعلمون أن الحرية اختيار.. والعدل ميثاق.. والأمل رؤية.. والإسلام هو الحل.. أما هؤلاء ممن نسبوا إلى أنفسهم الليبرالية والتحضر فهم كفار آثمون لهم مطامعهم الشخصية ومآربهم الدنيوية التى هيأت لهم الشيطان رفيقا والخطيئة طريقا.. فحادوا عن كلمة الصدق ومبدأ الشريعة، وأخذوا معهم الوطن إلى الجحيم)..
إنه الآن يتذكر كيف وجد مع رفقاء الإسلام الخلاص.. ومتى التقى تلك الجماعة من الشبان المؤمنين فوضعوه على أول طريق الهداية، حين كان يتأرجح بين الحق والباطل.. متوهما فى مرحلة التبست معالمها، أن الفن حضارة، والموسيقى غذاء الروح، ونجيب محفوظ أديب مصر النبيل، والعسكر هم خير أجناد الأرض!.
لقد بحث فى تلك المرحلة عن معنى للوجود وحقيقة الأمور وتفسير الأشياء، فلم يجد من يمد له يد العون، لكن تلك الجماعة احتضنته وعلمته وأفهمته ولقنته.. ثم.. ابتلعته..
فلم يعد يفكر إلا بعقولهم، ولم يعد يرى إلا من خلال عيونهم، ولم يعد يستمع إلا لتلك السموم التى يبثونها فى وجدانه.. فأصبح «السمع» وطنه و«الطاعة» كتابه.
باختصار لم يعد يصلح إلا ليكون واحداً منهم.. طيراً من طيور الظلام.
أوقف مؤمن سيارته بجوار الرصيف، أسند رأسه على الزجاج، وانتظر قليلا.. فأفاق من شروده على صبى صغير يجلس على الرصيف ويمسك بكيس خبز فى يده، وقد انهمك بشدة فى عد النقود التى قبض عليها بين أصابعه.
فتح مؤمن شباك السيارة حين نقر عليها الطفل الصغير وسأل بكل براءة:
«عمو لو سمحت، ماشفتش إتنين جنيه واقعين هنا جنب الرصيف؟»
«لأ يا شاطر.. امشى من هنا يالا».
جلس الطفل على الرصيف وبدأ يكلم نفسه وقد انهمرت دموعه شلالا:
«ليه كده بس ياربى.. باقى فلوس المدام اللى فى الدور التانى ضاعت منى، يعنى كده مش حتدينى بقشيش وحتقول على أبويا بواب فاشل، طب أنا كده حاكمل فلوس جزمة المدرسة اللى باحوش لها منين؟ يارب.. والنبى يارب ألاقيهم».
فى الجهة المُقابلة للشارع شرد ذهن صاحب الكشك العجوز الذى وقف يبيع ويشترى وقد بدا الهم كاسيا كل ملامح وجهه.. والتعب قد أثقل كاهله.. إن تفكيره لا ينقطع فى ابنته، العروس التى أصبح جهازها وفستان زفافها هى أمنيتها الوحيدة وهدفه الأكيد.. إنه يقف على قدميه خمس عشر ساعة كل يوم، على أمل أن يستطيع تدبير تكاليف الجهاز قبل موعد عُرسها.. لم تعد تؤلمه قدماه ولا أعراض مرض السكر والضغط الذى يعانى منهما الأمرين، فهى أولى بالنقود التى يشترى بها الدواء.. ولكن كيف يتخلص من مرض الهم؟
فى منتصف الطريق وقف أمين الشرطة ذو الخمسين عاما يُفسح الطريق لموكب الوزير داعيا الله أن يمر الموكب بسلام حتى يستطيع أن يهرع إلى منزل والدته ليلحق بموعد مستشفى التأمين الصحى لغسيل كُليتها.. إنه عائلها الوحيد وسندها فى الدنيا.. مُمزق بين أسرته الصغيرة وبين واجبه نحوها.. تنهد متمتا لنفسه: ((ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تُفرج )).
تلفت «مؤمن» يمينا ويسارا.. ونظر إلى السماء وكأنه يتمنى أن تنزل صاعقة على المكان فتعفيه من مهمته الثقيلة.. لكن..
هيهات.. إنها ساعة الصفر.. العاشرة والنصف.. موعد لقائه بوجه ربه الكريم.. موعد زفافه على حوريات الجنة وتطيبه برائحة المسك وامتلاكه أنهار الذهب..
كل ما يقلقه فى هذه اللحظة هو تلك الوجوه البائسة من أهل المنطقة.. ولكن.. هيهات.. فالبناء يأتى دائما بعد الهدم، ولابد أن تموت أجيال كى تولد أجيال أقوى.
قال «مؤمن» بحروف ترتعش: « أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. الله أكبر».
دوى صوت انفجار هائل فى المنطقة الهادئة.. فساد الهرج والمرج المكان.. جرى حراس الوزير ليحموا وزيرهم.. وانقلب المشهد إلى مأساة.. وتداعت الأحداث..
طار مشط قدم الطفل ابن حارس العقار فى الهواء لتسقط وسط حُطام سيارة مؤمن حاملة معها أحلام الطفل الصغير فى حذاء جديد للمدرسة.. وطال الانفجار كشك الرجل العجوز فتبعثر رأس ماله وقوت أولاده على الأرض.. وبُترت ساق أمين الشُرطة الذى اتصل بوالدته ليخبرها بأنه لن يستطيع بعد اليوم أن يأتى.. وتطايرت أشلاء مؤمن لترسو فى صناديق القمامة وسط تأوهات أمه المسكينة ولعنات أهل المنطقة.
باختصار دوى الانفجار فى وجوه الغلابة.. فتمزقت أشلاء أحلامهم.. واحتضرت نبضات قلوبهم.. واشتعلت النيران فى أجسادهم وأقدارهم.
على الرغم من الشظايا والبقايا والأشلاء.. فمازالت الشمس تشرق كل يوم.. ومازالت الزهور تتفتح كلما جاء الربيع.. ولايزال الكروان يشدو مُسلما بأن المُلك لله.. ومازالت مصر ترقص على إيقاع موسيقى الأمل وتتكحل بلون الحرية كل مساء..
ولايزال «مؤمن» يُحلم بمكان فى الجنة.. ولكن.. هيهات..