كتبت : هالة محمد مصطفى ... فجأة أحسست أننى أنعزل عما يحدث فى ميدان التحرير، أشعر بجسدى يرتفع ويرتفع، أنظر إليهم من أعلى وكأننى خرجت من الصورة، صاروا أشباحا تمر من أمامى، أصواتهم وهم يطالبون بأحلامى أن تتحقق كالنغم الشجى فى أذنى، أتكون الساعة قد حانت، سأموت قبل أن أفرح معهم بيوم النصر، أموت قبل أن أتنفس الحرية والعدل وقبل أن أرى الرضيع يكبر ذلك الوضيع الذى علّم الجميع أن يعبّروا عن آرائهم دون خوف، علّم جدتى القابعة فى ريف مصر أن تتحدث فى السياسة وهى تخبز أمام الفرن البلدى وتضحك لجارتها وتقول: عملها العيال الخضر ولاد امبارح.. العيش طالع على سيرتهم حلو وضاحك سنه، جدتى كانت متفائلة أكثر منى، أنا التى أتممت عامى الثامن عشر، حدثتنى فى الهاتف عن الولاد الصغار الذين رأتهم فى المنام وهم يحملون خبزا أبيض جميلا وتحضن سريسا اخضر يوزعوه على الناس بالتساوى، امنتنى أن أبلّغهم سلامها حين أراهم!! استبشرت خيرا فأنا أعلم أن جدتى بينها وبين الله عمار، وأحلامها كثيرا ما تتحقق، حلمت أننى أسير فى حديقة ذات زهور بيضاء فبشرتنى بنجاحى بمجموع كبير فى الشهادة الثانوية، وبالفعل تحقق حلمها. وافق أبى أن يصطحبنى اليوم معه إلى الميدان رغم رفضه فى الأيام السابقة، لقد مزّق اليوم شعارا متوارثا عن الأجداد ظل يطبقه بحذافيره لسنوات «لا حمارتك تشحتّها ولا مراتك تزورها».. لقد وافق أن يصطحب أمى التى كانت تمانع نزوله طوال ثمانية عشر يوما لخوفها عليه، وإيمانا منها بأن كل هذه التظاهرات مصيرها العدم. فأمام مجلس الشعب لا يخلو من المتظلمين ولا مجيب، لكن أبى كان مؤمننا بأن الله يبارك هذه الثورة لأنها ثورة على كل قبيح فى حياتنا كان يحكى لنا عن الميدان حكايات رائعة، عندما يأتى إلى المنزل لتغيير ملابسه أو الحصول على أغطية فى ليل يناير البارد، حكى عن محمد الذى كان يحمل طفله الذى لم يتجاوز الثانية وكيف لامه أبى خوفا على الصغير وكيف كان رد محمد مقنعا،. محمد يرضّع ولده الثورة فى وجه الظلم والعيش بحرية وكرامة، تمنيت أن أكون معهم. حدثنا عن الشهيد الباسم الذى ظل يجاهد البلطجية وأصيب ولم يستسلم.. بل ظل يجاهد حتى جاءته رصاصة، غدر فودع الجموع بابتسامة وكأنه يبشرهم بالنصر. تأثرت بحكاية مينا الذى استشهد فى الميدان وإصرار أخيه عدم ترك الميدان حتى يتحقق حلم أخيه وحلم كل مصرى بمصر جديدة، أكاد أشم عطر كل شهيد، رائحة الجنة تلف الميدان، تمنيت أن أموت وسط جموع فاقت أعدادها وتضاعفت عدة مرات زوار مولد السيدة زينب والسيدة نفيسة، وفاقت تجمعات الناس عندما ينتصر المنتخب القومى. صوت أبى يحذرنى من اصطدامى بالدبابة الواقفة بجوار الرصيف اخترق أذنى، الآن أشعر بيده تمسك ذراعى، أفيق من غفوتى أشعر بارتياح يبدو أن قلبى لم يحتمل كل هذا الفرح، فسكت قليلا ثم عاد للحياة، أشعر الآن بقدمى التى تئن وتشتكى إلى عقلى الذى تحرر من قيوده وصار متمردا عليها وعلى أعضائى، صار كعصفور يحلق ويحلق دون حدود ودون تعب، قلبى يرفرف كطفلة دخلت عالم الأحلام، رجوت أبى أن يلتقط لى صورة بجوار الدبابة وبجوار عسكرى الجيش الناظر إلى الجميع وكأنه عائد من غفوة مثلى، أرادت أمى صورة هى الأخرى بجوار الدبابة.. تذكرت الجروب المعنون على الفيس بوك بسؤال (من فى مصر ليس له صورة بجوار الدبابة)؟.. أعتقد الآن أن كل المصريين حظوا بهذا الشرف، صارت الدبابة رمز الأمان بعد أن كانت عنوان الحرب. تقمصت دور المصور الصحفى، بحثت عن اللقطات الجميلة والعجيبة صورت بائع البطاطا بعربته التى زينها بالإعلام، التقطت صورة لطفل رضيع ينام على صدر أمه التى كانت ترتدى قلادة ورقية بصورة الشهداء، كان الرضيع يبتسم وهو نائم، فبدا كمن يبشرنا أن أحبابنا المتنعمين بالجنة يشاركوننا أفراحنا. أخيرا.. استجبت لقدمى الشاكية وجلست بجوار أبى وأمى على رصيف الجامعة الأمريكية، نظرت إلى آخر صورة التقطها كانت لطفل يقترب من الثانية عشر يرتدى بنطلون جنيز قديما وقميصا مخططا بخطوط خضراء وسوداء يضع رأسه بين قدميه وينام فى سبات عميق، لا أدرى لماذا أخذتنى الصورة، أعطيتها لأبى، سألنى عن صاحبها باهتمام، قلبت فى الكاميرا على صورة أخرى فاندهش، كان الطفل ينام بجواره لم يلحظه كان مشغولا بسؤال كل من يمر من أمامه عن أحلامه، كان يسجل ويدون كل الأمنيات سأل طفلة فى الخامسة فأجابت دون أن تتردد إنها تريد أن تصبح كالضابط الذى يعظّم للشهداء فى التليفزيون. يسيطر علّى الفضول لمعرفة أمنيات هذا النائم الذى يغط فى نوم عميق والعالم من حوله يتنفس أصواتا وضجيجا، فتشت فى حقيبتى أخرجت موزة وتفاحة هما آخر ما تبقى معى. طلب منى أبى أن أضعهما بجواره، أعلم أن الفضول يتملكه ربما أكثر منى لمعرفة أحلام هذا الصغير بعد كل ما حدث، لكنه يستحرم إيقاظه فربما وجد الصغير فى هذا الضجيج الأمان، استحلفتنى أمى بعيون دامعة أن أتركه ووضعت بجواره زجاجة عصير كانت قد اشترتها لتوها بعد إحساسها بالإجهاد، فهى تعانى من مرض السكر، دموع أمى لم تجف منذ وطأت قدمها الميدان.. بل منذ قيام الثورة، والسكر لم يصل لنسبته الآمنة رغم أن الثورة وصلت لبر الأمان، اقتربت من الصبى احتكت عصا علمى به رغما عنى فاستيقظ مفزوعا، كادت أمى تضربنى، نظر الصبى لى بدهشة أعطيته الطعام دون أن أنطق فألتهمه بنهم فتراجعت عن تأنيب نفسى، سألته ماذا يريد من الثورة لم يرد كانت عيناه معلقة بأمى لا أعرف لماذا.. ربتت أمى على كتفه بحنان أعطته العصير لم يشربه بل ظل ينظر إليها وكأنه يرى فيها شبيهة لشخصية يعرفها ويتشوق لرؤيتها، ارتاحت قدمى قليلا فقمت أمارس هواية التصوير التى اكتشفتها فى نفسى منذ وطأت قدمى الميدان التقط صورة لرجل طاعن فى السن يجلس على الرصيف ينظر داعيا إلى السماء، وقد دمعت عيناه كان يتوسل إلى الله أن يجعل مصر فى رباط إلى يوم الدين، كما وعد أمّن الجالسون على الرصيف والمارون أمامه حتى الصغير الذى لا أعرف اسمه ردد كالآخرين «مين». نظرت إليه فابتسم ببراءة، سألته عن اسمه فأجاب وهو لا يزال يحدّق فى أمى: -أيوب. -الله اسمك جميل.. انت عارف سيدنا أيوب؟ -اعرفه طبعا أنا لست جاهلا.. أنا كنت فى المدرسة لكن الظروف. -أحسست أنه لا يريد التحدث عن ظروفه، فغيرت مجرى الحديث وعاودت سؤاله عن أحلامه خمنت أنه ربما يريد أن يصبح طبيبا أو ضابط جيش ممن يراهم اليوم أو حتى ثوريا ممن ينبتهم الميدان، لكن توقعى خاب عندما أجانبى بدون تردد أنه يحلم أن يأكل كل يوم!! تعثرت الكلمات على لسانى، نظرت إلى أبى الذى توقف هو الآخر عن تدوين أحلام الموجودين فى الميدان، أخرج بعض الجنيهات وأعطاها لأيوب ليشترى طعاما، تابعته بعينى حتى اختفى، اختنق بريق الفرح، لاحظ أبى شرودى فطلب منى مداعبا أن التقط له صورة، اختفت ابتسامتى، فهددنى أبى بالعودة إلى المنزل، نظر إلى أمى تتنهد: -سنعود إلى المنزل يا أم رؤى إذا لم تكف عن البكاء فاليوم فرحة.