ابتسامة بيضاء تصل إلى قلبك عندما تراها تتحرك هيئتها ببراءة تنفعل.. تتشنج.. تبكى.. تنزوى بنظرتها المكسورة تناديه من أعماق جوفها يا أبى أين أنت يا أبى؟ تمرر أمها يديها بحنية على جسد ابنتها المنتفض تبعث بطبطبتها السكينة داخلها تفتح (خلود) عينيها وتدور بهما بحثا عن طيفه تتنهد راحة عندما لا تجده وينكسر قلبها شوقا لأنه لم يعد لرؤيتها تغمض عينيها بقسوة عندما تتذكر مشاهد القتل والتنكيل التى رأتها على التليفزيون.. تسأل والدتها بعفوية: لماذا يرتدى أبى بدلته البيضاء دائماً؟ فأجابتها أمها باهتمام: لأنه يعمل ضابط شرطة تخرج كلماتها مذبذبة ناقمة مفحمة بالانكسار من فم خلود لتهيل تراب الخزى على صورة الأب داخلها فى الماضى كانت تشعر بتميزها لأن والدها ضابط شرطة زميلاتها كن يحسدنها على حنيته وطيبة قلبه وتدليله لها فخرها بوالدها ينير وجهها عندما يسألها سائل ماذا يعمل والداك؟ نبرة صوتها ترقص فرحا قائلة ضابط شرطة فى المطار تنشغل والدتها عن ردات فعل خلود التى بدت هادئة مستكينة لكنها تنتظر لتنطلق كبركان لا يهدأ يرن جرس التليفون يعتذر الأب عن الحضور على الغداء فالظروف التى تمر بها البلاد صعبة قاسية.. تسترق خلود السمع لتعرف ما يدور فى المكالمة بين والدها ووالدتها تحاول أن تعرف هل أبوها رجل قاسى القلب كما تقول لها صديقاتها فكل رجال الشرطة متورطون فى قتل المتظاهرين فى ميدان التحرير لكن والدها لم يكن فى ميدان التحرير هو قال لها ذلك عندما سألته هل يكذب عليها.. هل يريد الهروب من عقابها الطفولى له زملاء دراستها يعرضون ما فعلته الشرطة من قتل وتعذيب لأبرياء فى عمر الزهور على الفيس بوك كلهم يهاجمون والدها هم لا يعرفونه حقا.. لم يروا دموعه على طفل مشرد ينام على الرصيف.. لم يتحسسوا دماء الخجل تملأ وجنتيه وأحد الأصدقاء يشيد به بيتنا ككل بيوت أصدقائى لا شىء يميزه ربما أشعر أنه أقل بكثير مما يتصور البعض سألت والدتى كثيراً لماذا لا يشترى والدى سيارة خاصة بنا مثل كل صديقاتى.. هل كتب علينا أن نستخدم سيارة العمل عند الضرورة فكانت تأتينى كلماتها بها شموخ يذهلنى (والدك يا خلود راجل شريف لابد أن تفخرى بذلك) لن أنسى مناقشاتها الطاحنة مع والدى عندما تهل إجازة آخر العام بكل حلاوتها واشتياقنا إليها ففيها يحلو اللعب والسفر وفى كل عام كانت أمى العقل المدبر لنجاح قضية التصييف الكبرى وإذا تقاعست عن التحويش تنقلب الأمور رأساً على عقب وتنتهى إجازتنا نكداً ودموعاً لا تنقطع إلا أن والدى صاحب أطيب قلب فى الدنيا كانت حلوله الفورية تنقذ ما تبقى من إجازتنا على خير منذ بدأت الثورة أحسست أن هناك حاجزا خلقته الأحداث بينى وبينه رغما عنا، سنوات عمرى الاثنا عشر دفعتنى أن أصارحه بحقيقة ما أشعر به تجاهه، مزيج من مشاعر الحب والنقمة.. البراءة والاتهام لم أتوقع ردة فعله صدمنى ضعفه انهار على كرسى مكتبه باغتته نقمتى ولم يتصور أن يقف ذلك الموقف فى يوم من الأيام لم يخطر بباله أن تكون هزيمته على يدى وجدته يبكى من ظلمى له كطفل لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه تمنيت وقتها أن يصفعنى بكلتا يديه أو ينهرنى بكلمات غليظة اللهجة لكنه أبداً لم يفعل هذا فى حياته حتى وأنا فى أقسى حالات تمردى عليه أحسست بالحيرة فقد تركنى ورائحة دموعه لم تفارقنى وقرر أن يسافر إلى بلدته فى الشرقية حيث ولد وتربى وعاش.. تركنى لكى أعرف من يكون أبى؟!