دائماًمحجبة بعض الوقت «الله يتوب عليه وألبس الحجاب» هكذا تهمهم دائما أميمة، مضيفة الطيران الأربعينية. فعندما التحقت بعملها منذ ما يزيد على عشرين عاما، كان أحد شروط الوظيفة أن تكون حاسرة الرأس. وربما كان هذا الشرط فى هذه الفترة يروق لبنت العشرينيات المنطلقة التى تستخدم كل مقومات مظهرها للبحث عن ابن الحلال. كان هناك تصالح تماما بين متطلبات العمل وأفكار أميمة فى هذه المرحلة. ورغم جذور أسرتها الريفية، فقد كان كل أفرادها فرحين بتجربة ابنتها التى تبيت فى لندن وتصحو فى باريس. من فوق السحاب، استطاعت بالفعل أن تجد أميمة فتى أحلامها الذى كان بدوره يعمل فى نفس المجال. كان زوجها فخورا بملابس زوجته القصيرة والجريئة، فهو يعتقد أن زوجته هى واجهة لكل الأسرة ورمزا لتوجهها الفكرى. لكن ثمة أشياء بدأت تتغير عقب إنجاب أميمة لطفلها الأول. لمحة من الحزن تغلف نبرات صوتها وهى تروى: «بدأت أشعر بملل من نمط الحياة على تلك الوتيرة. يجتاحنى شعور بأننى مثل العروس الحلوى بهذه الأصباغ التى تلون وجهى وتجذب الذباب، فالبعض قد يعتقد أن مضيفة الطيران بل بعض النساء التى تمتهن مهنا مثل الصحافة أو التسويق أيضا صيدا سهلا». تصمت ثم تستطرد: «أحسست بأننى فارغة من الداخل. ثمة تجويف داخلى بدأ ينخر فى أعماقى، ربما تكون الأمومة غيرتنى، جعلتنى أشعر أننى أريد أن أكون مثل أمى حتى فى هيئتها الخارجية». تقدمت أميمة بطلب لشركة الطيران التى تعمل بها تطلب منها تغطية رأسها على الطائرة، لكن طلبها قوبل بالرفض لأن ارتداء الحجاب غير مقبول على متن طائراتها. «كنت بين نارين. زوجى وعملى اللذين يريدان منى أن أظل سافرة الرأس وبين رغبتى الشخصية وتشجيع أمى وشقيقتى من أجل ارتداء الحجاب. فقد كان زوجى يوبخنى ويسخر منى بل لم يكن يتورع أحيانا عن شد الطرحة من على رأسى بعنف تعبيرا عن رفضه التام لهذا الزى. عندما أكون فى الجو أخشى فى كل لحظة أن تقع الطائرة وأموت والله غاضب علىّ. أشعر ببرودة وقشعريرة تسرى فى جسدى». حائرة بين كل هذه الأحاسيس، وإزاء هذه الضغوط، قررت أميمة أن تجد صيغة جديدة للتعامل مع حجابها. فقد بدأت ترتدى حجابها على الأرض وتخلعه فى الجو. فعندما تراها فى الطائرة وهى تطوف بعربة المأكولات على الركاب ربما قد لا تصدق أن ذات هذا الشعر الذهبى، هى نفسها السيدة التى تصطحب أولادها لمران السباحة فى النادى بعباءتها الفضفاضة. وإن كانت أحيانا تتحرر من ملابسها المحتشمة عندما تخرج مع زوجها. «أعرف أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، لكننى لا أريد أيضا أن أهدم حياتى الزوجية. عندما سألت أحد المشايخ، نصحنى بالتروى فى أخذ أى قرار بشأن زواجى. وفى نفس الوقت، أحتاج لعملى لأن حياتى مع زوجى غير مضمونة». ورغم كل هذه الدوامات تعتقد أميمة أنها وجدت لنفسها مخرجا شرعيا، فقد تراها كثيرا ما تردد آية (فمن اضطر غير باغ لا عاد فلا إثم عليه) ردا على كل من يتهمها بالازدواجية فى تنفيذ أمر من أوامر الله. فهى لا تستطيع أن تترك عملها لأنها تحتاج لعائده وليس لديها خبرة فى أى مجال آخر. من ناحية أخرى، هى تريد أن تبقى على علاقتها الزوجية. فرغم تعدد علاقات زوجها النسائية، مازالت تحاول أن تعيد إلى ذهنه صورة البنت الحلوة التى هرول وراءها قبل الزواج، فتتزين وتخرج معه فى أمسيات حاسرة الرأس. تعلق بأسف: «يعلم الله نيتى ومدى حزنى على تقصيرى فى أداء واجب من فروض الله، لكن ما باليد حيلة». السير فى الاتجاه المعاكس كانت دائما تشعر بأنها تعيش بروحين. فأفكار أبيها طالما شكلت خيارات حياتها. منذ نعومة أظافرها، أجبرت دلال على ارتداء غطاء الرأس. بمجرد أن وقفت على أعتاب الأنوثة، قرر والدها عدم خروجها من البيت إلا بالطرحة. كانت أوامر الأب الصارمة وقتئذ اكبر من قدرة الصغيرة ذات الاثنى عشر ربيعا على المقاومة. عندما حاولت الرفض بحجة أن هذا الزى قد يمنعها من اللعب وركوب الدراجة ومشاركة أقرانها البنات فى ألعابهم، ثارت ثورة الأب وهدد أنه سوف يحرمها من الذهاب إلى المدرسة. «رضخت لأننى خشيت أن أحرم من تعليمى. كما أن الخوف بدأ يكبر بداخلى من عذاب الله إذا لم أضع الحجاب. شعورا كان يغذيه أبى وأمى ظنا منهما أنهما هكذا يعملان على إيقاظ ضميرى، لكن فى الواقع ثمة شعور برفض الطرحة ظل ينمو بداخلى يوما بعد يوم. بدأت اشعر بأننى أكره نفسى، أتفادى النظر للمرآة، أشعر بالاغتراب وكأننى أعيش داخل شخص لا أعرفه»، هكذا تكاد تصرخ دلال، الصحفية الثلاثينية، عن صراع نفسى تعانيه منه لأكثر من ثلاثة عشر عاما هى مدة ارتدائها غطاء الرأس. تضيف دلال: «كنت أتأرجح بين ثلاثية ضغط الأهل، الخوف من الله والنفور من مظهرى. كنت أشعر بنوع من الازدواجية، فأهلى فى سعيهم لمنحى فرصة تعليم جيدة، وضعونى فى مدرسة مشتركة ومع ذلك أجبرونى على هذا الزى. وكان لى بطبيعة الحال زملاء من الجنسين ومع ذلك كانوا يصرون أن يحرمونى من حقى فى اختيار مظهرى». كانت دلال تشعر بانها تائهة بين أنماط ثقافية شتى. فهم أسرة تقليدية تماما لكنها تسعى أن تعطى لأبنائها فرصة للتطور الاجتماعى دون أن تكون على استعداد للتخلى عن نسقها القيمى ومنظورها التقليدى للدين. كان هناك شكل معين قد رسمته العائلة للشخص الملتزم دينيا وكانوا مصرين على أن يبدوا فى هذا الإطار. تمضى دلال قائلة: «فى سن مبكرة كان أبى عنيفا جدا مع أختى الصغرى عندما تمردت على هذا الإطار وصارحته بعدم رغبتها فى ارتدائه، أعتقد أنه من منطلق (اضرب المربوط يخاف السايب) كى لا تسول لأحد منا نفسه أن يجاهر برفضه للحجاب». بدأ شعور بالغربة يجتاح نفسية الصغيرة كما تروى: «كنت وأنا فى مطلع الثمانينيات أكاد أكون الوحيدة فى فصلى التى ترتدى غطاء الرأس، فكنت أحيانا أشعر بأننى غريبة بين أقرانى». تقول دلال إنها عانت كثيرا، بل كادت تفقد صوابها وتتورط فى أخطاء جسيمة لا لشىء سوى لتثبت لنفسها أنها بنت مرغوبة مثل الأخريات: «بدأت أراوغ أبى وأتحايل على أوامره بل أتلذذ وأنا أضرب بها عرض الحائط. وكثيرا ما أطحت بالطرحة بشكل مفاجئ وأنا بين زملائى من الجنسين». كانت تشعر أنها هكذا قد ترضى رغبة مكبوتة بداخلها وتشعر بانتصار وتحرر. ولكنها فى نفس الوقت، كانت تعود وتكره نفسها وتجلدها جلدا مبرحا لأنها تشعر بأنها لا تحب أن تمضى علاقتها مع الله على هذا النحو: «أكره النفاق وأحب أن تكون أفعالى دائما فى النور. ما أخجل المجاهرة بفعله لا أحب أن أفعله. لكننى كنت أشعر فى هذه الأثناء أن الدائرة تضيق.. أشعر أنى أختنق». ولأن دلال تكاد تكون مفرطة فى حساسيتها، فقد بدأت ردود أفعالها تتأرجح بدورها من اجل محاولة التصالح مع نفسها. بدأت تقضى أياما فى عزلة تامة، لا تتحدث مع أحد. تنكب لتقرأ فى الدين بنهم، ولكنها تصم أذنيها عن الشرائط والبرامج الدينية التى كانت الأسرة تسمعها فى المنزل، فقد كانت تريد أن تعرف الله بشكل آخر. تقول دلال: «أعرف أن الحجاب فرض، لكننى لا أقدر على ارتدائه. قد تكون هذه نقطة ضعفى، لكننى أفضل أن تكون علاقتى بين الله مبنية على أساس الحب، فعندما نحب قد نكون أكثر على العطاء. ربما أكون لدى قدرة على الالتزام بشكل مختلف. فقد تكون هناك من لا تجد غضاضة فى لبس الحجاب لكنها لا تقدر على بذل شىء لمن حولها». هكذا تفكر دلال فى صيغة مختلفة لعلاقتها بالله، تريد أن تكون فيها مشاعرها أكثر صدقا. وبعد خلوة دامت شهورا، قطعتها لتبدأ مشوار «المقاومة السلمية» مع والديها: «كان إعلانى خلع الحجاب الذى لم أعد احتمله كالطامة الكبرى فى البيت. فقد قاطعنى الجميع، لكن الله أعطانى القدرة على الصمود لكل أنواع الهجوم الذى تعرضت له حتى لو بلغ الأمر تضييق النطاق على حركتى. أشعر اليوم أننى أخيرا وجدت طريق الله بعيدا عن طريق أرغمت عليه تحت الخوف والقهر والغضب».