تذكرتها أمس.. وهل منا من ينسى أمه.. معاذ الله. لأن أمى دائماً على لسانى ودائماً ما أطلب لها الرحمة.. بل وأسأل من حولى: لماذا يردد المصرى: آه يانى يا أمه.. ولا يقول: آه يانى يا آبه.. لماذا المصرى دائماً يلجأ إلى أمه.. ثم ليس على لسانى إلا قولى: الله يرحمك يا أمه. وإذا كان هناك من يتذكر أمه فى المناسبات.. أو بين حين ومين فإننى أتذكر أمى قبل الأكل وبعده.. بل وقبل أى خطوة أخطوها.. وأتخيلها دائماً فى كل تحركاتى. كان الأب «يجرى ويتعب» وكانت الأم هى التى تربى وتعلم وترعى. ما على الأب إلا أن يعمل ليأتى بالمال.. وكانت هى التى تتولى كل شىء.. هى التى علمتنى. وكان أبى لا يعرف فى أى سنة دراسية أدرس. فقد كانت متعلمة تعرف قيمة العلم. إذ كانت تعمل مدرسة..ومتى؟ عام 1927. كانت أمى طالبة بالمدرسة الراقية بالسنة الثالثة.. وكانت صديقتها عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ» طالبة بالسنة الثانية.. وهى نوع من المدارس من أفكار مستر دانلوب المستشار الإنجليزى لوزارة المعارف، عندما كان سعد زغلول وزيرها.. ولهذا عرفت أمى معنى التعليم وقيمته.. وكانت تحلم أن يتعلم أولادها.. مثلها. وأمى هى التى حببتنى فى حزب الوفد.. وبالذات فى مصطفى النحاس باشا، الذى كنت أشبهه فى حول العين الذى أصابه وأصابنى.. وكانت لى ابنة خالة وتقول لها بعد أن أصبت بالرمد الصديدى وأنا طفل: والنبى بكره يبقى زى مصطفى النحاس. وكانت أمى هى التى تقدم لى فى كل مدرسة.. وتدفعنى للأمام ومن الكتب القليلة التى تملكها علمتنى كيف أقرأ.. وفيها أمسكت لأول مرة بأعداد من مجلة الرسالة لصاحبها أحمدحسن الزيات.. وإعداد الثقافة التى أصدرها أحمد أمين.. وكذلك أعداد وملازم «دائرة المعارف الإسلامية» ومن هذه اللحظة عرفت قيمة دوائر المعارف.. وعرفت قيمة الكتاب. وكانت دائماً ما ترى بين يدى أوراق صحيفة ولو قديمة.. فكانت تبتسم قائلة: والنبى يابنى هتموت وفى إيدك ورقة جرايد.. وهكذا عشقت الصحافة.. وأدمنت القراءة.. وأنا على يقين من أن نبوءة أمى سوف تتحقق!! ورغم أننى أمتلك خطاً جميلاً للغاية.. إلا أن خط أمى كان أفضل من خطى.. وكانت رسائلها لى لاتقل عن عشر صفحات «بوجهين» يعنى الرسالة من 20 صفحة كانت تكتب لى عن كل شىء. أخبار البيت..والحارة.. والأسرة.. حتى أخبار «تربيتها» من بط وفراخ.. وكذلك أخبار قطتنا سمارة ثم ابنها العزيز مشمش!! تخيلوا كانت رسائلها لى وأنا فى القاهرة.. ثم وأنا أعمل فى أبوظبى عبارة عن صحيفة إخبارية كاملة.. وهكذا عشقت الصحافة من خلال خطابات أمى. وربما لم أشعر «باليتم» عندما مات أبى عليه رحمة الله فى عام 1982.. ولكننى أحسست «باليتم» الحقيقى يوم ماتت أمى يوم «15 نوفمبر 1995».. ومازلت أتذكرها.. وأترحم عليها. ونقلت عشقى لأمى إلى عشقى إلى أمى الأكبر: مصر.. وانغمست فى العمل السياسى والصحفى فما نسيت أمى العظيمة «فريدة» وهذا اسمها.. ولا نسيت أمى الكبرى مصر. وكانت أمى فريدة فى كل شىء. وأفرغت كل حبى لها فى حبى لمصر.. ومازلت كلما شدنى الحنين أطالب زوجتى بأطايب الطعام التى كانت أمى تعدها لى: صينية البطاطس وردية اللون فى الفرن البلدى أو صينية المكرونة المقصوصة باللبن.. أما أروع ما كانت أمى تطبخه فكان «صينية الحنشان بالطماطم» والحنشان هو ثعبان البحر..وكذلك البط المحشى بالمارتة!! رحمك الله يا أمى.. وأعانك الله يامصر.. ياأمنا الكبيرة.. وانقذك مما أنت فيه الآن من هوان على أيدى قلة من أبنائك.