■ تكوين جيش من المصريين فرض إقامة تعداد قومى ومسك دفاتر ورعاية صحية وصياغة قوانين جنائية وإنشاء مكاتب بريد وتعليم اللغات وقياس الوقت.. باختصار لولا الجيش ما كانت النهضة الأخيرة! ■ لم يتخرج أحد فى المؤسسة العسكرية وفكر فى أن يكون عميلا
لا من بعيد أو قريب الدولة المدنية الحديثة فى مصر ولدت فى ثكنات المؤسسة العسكرية!
■ الدكتور خالد فهمى فى كتاب كل رجال الباشا: الوطنية المصرية بدأت بتمرد الجنود المصريين على الأتراك ثم انتقلت إلى الشعب
يفضل الإنسان العيش فى جماعة.. والفيل أيضا.. يتمتع الإنسان بالذكاء.. والثعلب أيضا.. يمتلك الإنسان القدرة على الكلام.. والببغاء أيضا.. يقدر الإنسان على الضحك.. والقرد أيضا.
الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان.. التاريخ.. الإنسان حيوان له تاريخ.. يستفيد من أخطائه.. يتعلم منها.. ويتجاوزها.
إن الفأر يقع فى المصيدة منذ مئات السنين بنفس قطعة الجبن الشهية.. ومنذ وقع أول أسد فى شباك صياد وأحفاده يقعون فى نفس الشباك بنفس السهولة.. ويسهل جرجرة فيل إلى حديقة الحيوان بقليل من الخضرة كما حدث مع جده.
أما الإنسان.. فكل تجربة تمر به تكسبه خبرة.. وكل مأساة يتعرض لها لا يكررها.. وكل جحر يلدغ منه لا يمد يده إليه مرة ثانية.
هذه رؤية بشرية.. ثاقبة.. فاهمة.. واعية.. قدم بها أحمد بهاء الدين كتابه الشهير «أيام لها تاريخ».. منتهيا إلى درس مجانى يجب حفظه.. الأغبياء فقط هم الذين يكررون أخطاءهم.
1
نفس الوجوه.. نفس الحماس.. نفس التحدى.. نفس الشعار.. «لا لحكم العسكر».. مشهد عشناه بعد ثورة يناير.. انتهى بإجبار مصر أحلى عروس فى الدنيا على زواج قسرى بقاطع طريق اسمه محمد مرسى.. وعندما طلقها أهلها وأعادوا إليها حريتها فى ثورة يوينو تكرر المشهد.. بنفس الوجوه.. ونفس الحماس.. ونفس التحدى.. ونفس الشعار.. فهل نريد أن نصل إلى نفس النتيجة.. إعادة مصر إلى بيت الطاعة الإخوانى؟
لن أناقش أبطال المشهد المتكرر فيما يهدفون.. لن أخوض فى ذمتهم السياسية والثورية.. لكنى.. سأناقش بكل ما فى العلم من قوة وما فى المنطق من جرأة شعارهم المزمن «لا لحكم العسكر».. سأفصل الماء النقى عن بقعة الزيت الملوث.
2
لقد مكث خالد فهمى أكثر من عشر سنوات على مقاعد البحث والدراسة فى جامعات القاهرة وأكسفورد وبرنستون ونيويورك قبل أن يحصل على الدكتوراه فى التاريخ الحديث.. ويضعها فى كتاب «كل رجال الباشا محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة» الذى صدرت ترجمته عن دار الشروق عام 2001.
لا أريد القفز على الأحداث لأصل إلى النتيجة التى وصل إليها الباحث المحترف.. أن الدولة المصرية المدنية الحديثة صناعة كاملة للمؤسسة العسكرية.. لكن.. لنضع هذه الحقيقة أمام أعيننا ونحن نقرأ ما كتب من معلومات.. وما نشر من مستندات.
3
فى عام 1832 وصف الرحالة الإنجليزى سان جون سوق قرية فى بنى سويف.. حيث يجلس الفلاحون الفقراء القرفصاء وهم يبيعون منتجاتهم المتواضعة.. وفجأة «لاحظنا عددا من ضباط الفرسان» فى بدلهم الفاخرة المبرقشة.. على ظهور خيول مطهمة.. «ويؤدى وضع العالمين جنبا إلى جنب إلى ظهور فارق هائل بينهما».. وضع قديم متخلف.. ووضع جديد متطور ومتحرك ونابض بالحياة والقوة.
لكن.. بعد سنوات قليلة.. انتقل الفلاحون البسطاء إلى مستوى الفرسان الأقوياء.. أما السبب المباشر والوحيد فهو أن محمد على قرر تجنيدهم.. وكوّن منهم جيشا صلبا.. نجح فى الوصول إلى جنوب السودان والقرن الأفريقى وحدود أوروبا.. وهدد الإمبراطورية العثمانية فى عقر عاصمتها.. على أن الأهم.. أن الفلاحين الفقراء غيروا حياتهم وطوروها وانتقلوا إلى عالم أفضل وأرقى بالخبرات التى اكتسبوها فى سنوات الخدمة العسكرية.
4
وكل من جند مثلى يعرف كيف يعيد الجيش صياغة الشخصية الريفية.. البسيطة.. ويمنحها فرص تطوير حياتها.. ويطلعها على خبرات ما كانت لتعرفها لو بقيت فى مكانها.. تمحى أميتها.. تتعلم حرفة.. تعرف معنى الانضباط والالتزام واحترام القانون.. بل أكثر من ذلك.. وأرجو ألا أكون متجاوزا.. هناك من لم يعرف قيمة المياه والصابون معا.. ووجود أكثر من غيار فى الثياب إلا فى ثكنات الجيش.
ويرسم لنا وحيد حامد فى فيلم «البرىء» كيف تغيرت شخصية بطله «سبع الليل»شكلا قبل أن تنضج عقلا بعد أسابيع قليلة من تأدية الخدمة الإلزامية.
وأذكر.. أننى فى فترة التدريب الأساسية كنت أحمل معى قبل النزول فى إجازة قائمة طلبات لزملاء الكتيبة لافتة للنظر.. «عيش فينو».. «جبنة رومى».. «سجائر مكنة».. مثلا.. سلع عرفها المجندون الريفيون أول مرة فى حياتهم.. ولاحظت أنهم أكثر من المجندين المؤهلات حرصا على أناقة ثيابهم العسكرية.. ربما تعويضا عن بساطة ثيابهم المدنية.. لقد غيرت الثكنات حياتهم.. ومنحهم الجيش فرصة تطويرها.
5
بدأ محمد على باشا تكوين جيشه بتجنيد أبناء جنسه من الألبان.. لكنهم.. لم يحتملوا قسوة الطقس الحار فى الحملات العسكرية التى أرسلها إلى السودان.. فقرر أن يخطف السودانيين ليجندهم مثل العبيد.. لكن.. من وصل منهم سالما كان أقل ممن مات فى الطريق.. ومن صلح للخدمة كان أقل ممن لا يصلح.. فكانت تكلفة الجندى أكبر من قيمة جوهرة على حد وصف الباشا نفسه.
لم يجد الباشا مفرا من تجنيد الفلاحين المصريين بعد أن استبعدهم من الخدمة حتى لا تفقد الزراعة قوتها البشرية الضرورية.. فى 18 فبراير 1822 قرر محمد على تجنيد أربعة آلاف رجل من الصعيد.. ووضع فى أيديهم سلاحاً لأول مرة بعد أن منعهم المماليك من لمس البنادق أو حمل السيوف.
وبإشادة محمد بك لاظ أوغلى ناظر الجهادية بالجنود المصريين تزايد تجنيد الفلاحين حتى وصل إلى 130 ألف مجند.. وأصبح مقدرا للتجنيد أن يغير بعنف وجه المجتمع المصرى.. حسب جملة خالد فهمى.. مصدرنا الوحيد الذى نرتكن إليه.
كانت السلطات تفتقر إلى المعلومات عن السكان لتختار من بينهم من يصلح للخدمة.. فقررت القيام بأول تعداد لمديريات (محافظات) الشمال فى عام 1827.. حصلت منه على ما تريد من معلومات بعد تصنيفها وتبويبها.. وفى عام 1845 قامت بتعداد قومى عام.. لم تكن لتفكر فيه لولا رغبتها فى تكوين الجيش.
وكلف مشايخ القرى بإحضار المطلوبين للخدمة العسكرية.. ولكن.. بعضهم كان يقوم بتهريب أقاربه إلى قرى أخرى.. فكان لابد من رسم خرائط تحدد زمام كل قرية لتحديد مسئولية عمدتها.. وعقابه إذا ما تجاوز المطلوب منه.. وهكذا.. ولدت نظرية الحكم المحلى فى مصر التى امتدت إلى تسمية شوارع المدن وترقيم منازلها.
ولحقت بها المؤسسة التشريعية التى فرضت قوانين تحاسب من يهرب من الخدمة.. ومن يساعده على الهروب.. ومن يتخلف عن العودة إلى الثكنات.. ومن يرتكب جرائم داخل وخارج المعسكرات.
وسبق ذلك.. ولادة البيروقراطية.. فالمجند يجب أن تكون له شهادة ميلاد.. وشهادة وفاة.. وشهادة تحدد مكان خدمته.. ودفاتر تسجل اسمه وتاريخ ميلاده وعنوانه وما يصرف له من راتب وثياب وغذاء.. وما يمنح من إجازات وترقيات ومعونات.. ونظرا لأهمية التسجيل والدفتر والكلمة المكتوبة أصبح الكاتب موظفا على درجة أهمية عظمى.. وفى عام 1844 صدر قانون ينظم البنية الداخلية للبيروقراطية المدنية ينص صراحة على «أن تكون أوراق الدفتر مختومة ومرقمة وكتابتها متصلة بلا صفحات بيضاء فى المنتصف وأن تكون الكتابة واضحة ومقروءة بلا شطب أو كشط».
وربما لا نعرف أن مصطلح «قيد» البيروقراطى الشائع فى الحكومة حتى الآن كان يقصد به التجنيد.. أو بدقة أكثر «كتابة الاسم فى سجلات التجنيد».. ومن كلمة قيد جاءت كلمة قائد.
وقبل تجنيد المصريين كان الزمن عندهم يقاس بموسم الحصاد أو الانتهاء من حفظ القرآن.. لكن.. بعد تجنيدهم تغير مقياس الزمن إلى الوحدات المتساوية القابلة للعد.. الساعات والدقائق والثوانى.
وقبل تجنيدهم كانوا يعالجون بوصفات العطارين ودجل المشعوذين وفى أفضل الأحوال كان يسلمون أجسادهم للحلاقين.. ومن ثم كانت نسب الوفيات فى الأطفال شديدة الخطورة.. ومتوسط عمر المواطن لا يزيد على الخمسين سنة.. لكن.. ذلك تغير بعد أن عرفت المؤسسة العسكرية طريقها إلى الوجود.. فقد فرض فرز المطلوبين للتجنيد وجود مراكز طبية متطورة.. تكشف الداء وتفرض الدواء.. وسرعان ما انتقلت الخدمات الطبية من العسكريين إلى المدنيين.. وتطورت الرعاية الصحية.
6
«لقد وجدت السلطات أن عليها أن تطبع فى أذهان المجندين الجدد أن ما سيخبرونه (فى سنوات خدمتهم العسكرية) مختلف تماما عن السخرة أو أى شىء آخر خبروه من قبل.. ولذا فإن طريقة تعامل الفلاح مع وقته وبيئته بل وجسمه يجب أن تختلف اختلافا جذريا.. وكان الجديد.. جداول زمنية.. وفحوصات طبية.. ونظم مراقبة قاسية».
أصبحت هناك «كشوف التمام».. وتصاريح الإجازات.. ومعرفة الحقوق والواجبات.. ومعرفة الجرائم وعقابها.. والتمييز بالزى والرتب والعلامات بين الجنود والضباط.. واختلاف ملابس النوم عن ملابس التدريب والتشريفة والقتال.. والتشديد على ممارسة الجنس مع الغلمان.. وهو أمر كان شائعا بسبب عزلة الرجال عن النساء فى كل المجتمعات.. وفتح باب الترقى لكل من سعى إلى التخلص من الأمية.. بل أكثر من ذلك أجبر الضباط على تعلم اللغات الأجنبية فى مدرسة الألسن التى أسسها وأدارها رفاعة بك الطهطاوى.. فعرفت مصر مبكرا قيمة الاتصال بالعالم المتطور فى الغرب عبر الترجمات. .ولم ينس الجيش فى ذلك الوقت أن يبنى مساكن قريبة من المعسكرات البعيدة لزوجات الجنود ليعشن معهم ساعات من الخلوة الشرعية حفاظا على روحهم المعنوية وتجنيبهم للعلاقات غير السوية.. منتهى الواقعية.
ولربط الفرق المصرية المقاتلة فى سوريا وضع نظام مناسب للبريد بتقسيم الطريق بين القاهرة والشام إلى 12 مركزا.. تتحرك بسرعة مثل الماراثون لتصل الخطابات إلى الجنود فى أقل وقت ممكن.. أما الفرق التى تمركزت فى السودان فحملت البريد إلى جنودها بواخر سميت بالبوستة الخديوية.. والمؤكد أن نظام البريد الحربى فرض نفسه فيما بعد على نظام البريد المدنى الذى لم يكن له وجود من قبل.
وبجانب البريد حرص محمد على أن يصل تموين الجيش وثيابه واحتياجاته خارج الحدود من داخل مصر، واضعا بذلك قاعدة أخلاقية لم تخرج عنها المؤسسة العسكرية فيما بعد.. ألا تنهب قرية.. ولا تقلع شجرة.. ولا تغتصب امرأة.. على خلاف كثير من الجيوش الأخرى التى ترك لها قادتها حرية النهب والسلب والقتل فى كل مكان أجنبى تصل إليه.. وإذا ما احتاجوا شيئا من السكان المحليين عليهم أن يشتروه بأسعار عادلة.
يقول خالد فهمى: لقد حرص الباشا وابنه إبراهيم على أن يحصل جنودهما على ماهياتهم وإعاشتهم بانتظام وعدم السماح لهم بالمعيشة على حساب الأرض التى يزحفون عبرها.. «فالنهب والغنائم كانت محظورة تماما».. واعتمد الجيش على «بنية الدولة الحديثة التى أقامها (محمد على) لكى تعول الجيش».
7
وأتاحت كل فرص الحياة الحديثة للضباط المصريين وعيا سياسيا بدأ بإصرار منهم على المساواة بالضباط الأتراك.. وبمرور الوقت تحول الوعى إلى سخط.. وانتقل السخط من الجيش إلى الشعب.
كان سخط المصريين على حكامهم المتحدثين بالتركية قد بدأ فى الظهور بشكل واضح فى الجيش أساسا.. وحسب ما ذكر المراقب الإنجليزى جون بارونج فى منتصف الثلاثينيات من القرن قبل الماضى: كان «أى جندى عربى من الجيل السابق واقعا بالكامل تحت رحمة ضابطه التركى.. الآن الأمر مختلف.. فشخصية السكان بمجملها تمر بتحول صامت لكنه واضح، فالعنصر المصرى يحل تدريجيا محل التركى».
«وبحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر كان ذلك العنصر المصرى قد اكتسب قدرا كافيا من الوعى الذاتى لكى «يجرؤ على الاعتراف بوجوده الخاص» والتعبير عن نفسه بتمرد علنى.. فالثورة العرابية فى عامى 1881 و1882 كانت - بالإضافة إلى أنها ثورة قامت بها قطاعات مختلفة من السكان المدنيين والريفيين ضد السيطرة الأوروبية المزدوجة - تمردا من جانب الضباط الفلاحين المتحدثين بالعربية على رؤسائهم المتحدثين بالتركية».
«لقد ساهم الجيش بالفعل فى صعود الوطنية المصرية بإيجاد خبرة متجانسة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين فى مدة تتجاوز العشرين عاما زرعت فيهم الشعور بكراهية العثمانيين وساهمت بذلك فى تشكيل«تخيلهم» الجماعى عن الأمة.
8
ولاشك أن تراث أحمد عرابى ساهم فى تكوين جمال عبدالناصر.. ولاشك أن أخطاء محمد حسين طنطاوى أصلحها عبدالفتاح السيسى.. وفى كل الأحوال لم يأت لحكم مصر ضابط خائن.. ربما جاء ضابط متهور.. أو فاشل.. أو فاسد.. لكن.. لا أحد تخرج فى المؤسسة العسكرية المصرية وفكر فى أن يكون عميلا لبعيد أو قريب.
ولو كانت الجيوش تولد من رحم الدول المتطورة والمستقرة فإن الدولة المصرية الحديثة والمدنية ولدت من رحم المؤسسة العسكرية الوطنية.. أما شعار «لا لحكم العسكر» فالمؤكد أنه استورد من أمريكا اللاتينية.. وعبرت عنه كتابات ماركيز التى أثرت فى الأجيال الأخيرة من المثقفين المصريين.. دون أن يعرفوا أن بداية الجنرالات هناك كانت قيادة عصابات المخدرات ارتدت الرتب والنياشين.. وفى مرحلة تالية.. أصبحوا عملاء لوكالات المخابرات الأمريكية.. فلا هم لهم جذور فى العسكرية.. ولا هم آمنوا بالوطنية.
بهذا المفهوم.. لا لحكم العسكر.. وبمفهوم الإخوان.. لا لحكم المشايخ.. لكن.. بمفهوم الديمقراطية.. نعم لحكم كل من يجد فى نفسه الكفاءة لفرض القانون.. وضرب الفساد.. وتحرير إرادة الأمة.. والوصول إلى العدالة الاجتماعية.
المخابرات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية تعيد تشغيل عملائها فى نشر الفوضى وهدم الدولة وكسر الأمن وضرب الجيش بعد أن فشلت فى تجنيد عملاء جدد!
■ مركز «كانفاس» فى صربيا يجدد برامجه بعد ثورة يونيه ويسعى لزرع الفتنة داخل العائلة المالكة السعودية وضرب النظام من الداخل!
تفضل الولاياتالمتحدة التعامل مع حكام منفصلين عن شعوبهم.. ويفضل أن تكون أنظمتهم فاسدة.. منقسمة على نفسها.. دائرة السلطة فيها متعددة المراكز.
وأقرب مثال على ذلك حسنى مبارك.. لم يكن الشعب راضيا عن نظامه.. خاصة فى سنواته العشر الأخيرة.. وتحالفت فيه الثروة والسلطة فى منظومة فساد مزمنة غطتها القوانين وساندتها التشريعات.. ليخرج كل اللصوص من القضايا كالشعرة من العجين.. بجانب انقسام الشخصيات المؤثرة فى الحكم على نفسها.. رئيس شاخ فى منصبه ينافسه ابن من صلبه.. حرس قديم يخشى على مكاسبه يقاوم تيارات شابة تسعى لنيل نصيبها من الكعكة.. مؤسسة أمنية متجاوزة تواجه مؤسسة عسكرية مسيطرة.
وربما لهذا السبب تخشى واشنطن من ترشح رجل مثل عبدالفتاح السيسى.. وضع رقبته على كفه.. وتدخل فى الوقت المناسب لإنقاذ الشعب المصرى من حكم دولة الإخوان المتفجرة فاشية ورجعية.. وليفسد مخططات أجهزة مخابرات أمريكية وأوروبية فى أن تصبح مصر دولة فاشلة.. تحترق نيابة عنها فى جحيم الإرهاب.. وليذهب أهلها إلى الجحيم.
إن حاكمًا يحترمه الشعب ويتمتع بتأييده وحبه وتقديره.. أكبر كارثة سياسية يمكن أن تؤلم إدارة باراك أوباما.. وتصيبها بسرطان مباغت فى السيطرة على المنطقة بأسرها.
وما يؤلم تلك الأجهزة أنها فشلت فى تجنيد عملاء جدد ينفذون ما تدبره لنا الآن.. فلم تجد أمامها سوى أن تعيد تشغيل من سبق تجنيدهم رغم احتراقهم وكشفهم وفضحهم.. ويكاد المصريون يعرفونهم بالاسم.. حسب متابعة مواقع التواصل الاجتماعى.
وبجانب اللجوء إلى نفس الوجوه سعت تلك الأجهزة لتنفيذ نفس اللعبة السابقة.. بالدفع إلى «ثورة ثالثة».. حسب تسميتها.. متجاهلة نجاح ثورة يناير فى التخلص من نظام مبارك.. ونجاح ثورة يونيه فى إزاحة نظام الإخوان.. والنظامان يشكلان معا عهدا قديما.. فقد تعايشا معا.. وقسما النظام بينهما.. أحدهما فى السلطة والآخر فى المعارضة.
«الثورة الثالثة» تستهدف إلى فوضى عارمة.. تسقط مؤسسات الدولة.. الجيش.. الشرطة.. القضاء.. الإعلام.. وغيرها.. لتصبح مصر مثل ثوب مرقع بألف قطعة قماش وبألف لون نسيج.. بألف جماعة.. وألف تنظيم.. وألف ميليشيا.. وألف قناع.. وألف قائد.. لتغرق المركب بما فيها ومن فيها.
ولحظة أن انتهت لجنة الخمسين من إعداد دستور يرضى عنه المصريون بدأت تلك الأجهزة فى التحرك السريع لمنع الاستفتاء عليه.. وراحت تدبر لمظاهرات شرسة ستصل إلى ذروتها فى الأيام الأخيرة من السنة (29 و30 و31 ديسمبر) تمهيدا ليوم قيامة آخر فى يناير التالى.
ليس من الصعب أن الهدف قبل إسقاط الدولة تعطيل الاستفتاء على الدستور لمنع استكمال خارطة المستقبل التى أقرت فى 3 يوليو.. وربما لهذا السبب.. ولصعوبة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.. يكون من الأفضل سياسيا.. البدء بانتخابات رئاسية.. لنضمن وجود رأس للحكم.. رئيس مسئول.. قادر.. له من الصلاحيات والسلطات ما ينفذ بها ما تبقى من الخارطة.
لجأت تلك الأجهزة لنفس المنظمة القديمة التى استعانت بها من قبل فى ضرب نظام مبارك.. مستغلة براءة جماعات شبابية ثورية فى تحقيق ما تريد.. مستفيدة من قيادات سبق أن عجنتها وخبزتها واستعملتها.. والمؤكد أن النظام القائم المستند إلى شرعية ثلاثين مليون مصرى خرجوا فى 30 يونيه لا يمت بصلة من قريب أو بعيد لنظام ما قبل 25 يناير.. لكن.. لا مفر من المحاولة.. بل وتكرار المحاولة.
المنظمة القديمة اسمها «كانفاس» والاسم عبارة عن الحروف اللاتينية الأولى من اسم أكبر.. ترجمته «مركز النشاط والاستراتيجيات التطبيقية اللا عنفية».. تأسس المركز عام 2002 فى دولة صربيا بعد إسقاط حكم ديكتاتورها الشهير سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000.. والمركز عبارة عن شبكة دولية من المدربين والاستشاريين الدوليين سبق لهم أن شاركوا الطلاب الصربيين فى حركة المقاومة هناك.. حركة «أوتبور» المعارضة.. وبنجاحهم تقرر تدريب طلاب وشباب من مصر وأوكرانيا وجنوب إفريقيا وجورجيا.
وأخيرًا دخلت السعودية على اللائحة.. لكن.. السعودية وضعت لها خطة مختلفة.. تستند إلى زرع الفتنة بين أمراء الأسرة الحاكمة.. وتمزيق وحدتهم.. وتشتيت تماسكهم.. ليكون الانقسام والانقلاب من الداخل.. بسبب غياب منظمات مدنية تقوم بهذه المهمة.
تأسس المركز بتمويل من يهودى أمريكى هو بيتر أكرمان.. وهو شخصية بارزة فى منظمة «أيباك».. أقوى منظمات اللوبى الإسرائيلى فى واشنطن.. وهو فى الوقت نفسه رئيس مؤسسة «فريدوم هاوس» التى تدعو إلى تغيير الأنظمة بالنظرية الصينية.. نظرية التفتيت بالتنقيط.
ويدعم المركز عددًا آخر من اليهود.. منهم جورج سورس.. الملياردير الشهير الذى خرب بورصات جنوب شرق آسيا.. وساهم فى تدمير قيمة ثروتها العقارية.
ويرأس المركز صربى بيوفيتش.. الذى يرتبط بعلاقات قوية مباشرة مع أوباما.. بخلاف اتصالاته الحميمة مع رؤساء دول أوروبية مختلفة.
وتساهم أجهزة أمنية ومخابراتية أمريكية وأوروبية فى تمويل المركز بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.. لكن.. الدعم يصل عبر وسطاء وغطاء.. مثل «الصندوق الوطنى لدعم الديمقراطية بالولاياتالمتحدة».. و«صندوق سورس».. و«منظمة العفو الدولية».. و«المنتدى الصربى الجديد».
ولوجود يهود فى اللعبة فإن ذلك يعنى خدمة أهداف الصهيونية العالمية التى من مصلحتها أن تكون الدول العربية مفتتة.. مشغولة بصراعاتها الداخلية.. متورطة فى حروبها الأهلية.. بلاجيش.. بلا أمن.. وفى حالة فوضى.. إنه الوضع المثالى الذى تحلم به إسرائيل.. بل أكثر من ذلك تخطط إسرائيل منذ لحظة إعلانها لوجود نظم عربية حليفة لها.. والدليل على ذلك.. أن محمد مرسى نجح فى نزع أسلحة وأنياب حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحولها من حركة مسلحة إلى حركة مستسلمة.. فانبسطت أسارير واشنطن وتل أبيب فى نفس اللحظة.. وتضاعف الإعجاب بالرئيس الإخوانى الضعيف بعد وصفه لشيمون بيريز بالصديق الوفى.. تمهيدا لتنفيذ مخطط الوطن البديل للفلسطينيين فى العريش.
استغل المركز ثورات الربيع العربى بالدفع إلى إسقاط الدول التى قامت فيها.. إن الثورة فعل إيجابى لتغيير نظام الحكم الفاسد والمستبد.. وليست فعلا سلبيا.. يقضى على الدولة ويقسم وسطها.. إن مشاهد التقسيم والعنف والصراعات والاغتيالات التى نجدها فى سوريا واليمن وليبيا وتونس مطلوب تكرارها فى مصر.. بدعاوى متنوعة.. لم تعد مقبولة من أصحابها.. وعليهم لو عندهم بذرة من الوطنية أن يكفوا عن أفعالهم.. وأن يكفوا عن اللعب مع القوى الخفية.. إنهم يرتدون أقنعة القديسيون لكنهم يتصرفون كالمجرمين.. لا مفر من تسمية الأمور بأسمائها.. فلا وقت للمناورات.. والمؤامرات.
نجح المركز فى تدريب 95 حركة طلابية وشبابية فى هذه الدول ليصبحوا خبراء ومستشارين فى «النضال» حسب تعبيرهم.. وكلمة خبير هنا تعنى وظيفة.. ولا وظيفة بالقطع بلا مقابل.
وقد قدم لنا أحد هؤلاء الخبراء بعد أن اكتشف هو وعدد من زملائه ما يجرون إليه نسخة من البرامج والكتب التى درسوها وتدربوا عليها لكى يصلوا إلى حالة ثورة الفوضى فى مصر.
الكتاب الأول: دليل فعالية النضال اللاعنفى.. وضعه سيرجا بوبوفيتش وسلوبودان جينوفيتش وأندراى ميلوميتش وهاردى ميرمان وإيفان ماروفيتش.. وطبعه المركز ونشره عام 2007.. ويقع فى 290 صفحة.. بما فيها الملاحق.. والكتاب مزود بصور ورسومات للشرح.. فالهدف منه تدريب عملى على ما يهدف إليه.
وتساهم هذه التدريبات للسيطرة على أفكار ومنظومة قيم من يتلقاها بما يشبه غسيل المخ مما يسهل السيطرة عليه إلى حد التحكم فيه وتحويله من ثورى إلى عميل.. والمؤكد أن ما تحمله البرامج من عناوين براقة مثل الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والكرامة البشرية تغرى من يسمعها ويعرفها ببراءة بأن ينجرف ناحية الهاوية خاصة إذا ما قيل له إن مؤسسات الدولة هى المسئولة عن عدم تحقيق هذه المطالب.. والسبب المباشر لتأخر المجتمع وتخلفه عن مواكبة التحديث والتطور.
الكتاب الثانى : منهاج التظاهر: وهو دليل عملى مستمد من تجارب سابقة على الثورات والتظاهرات.. مستمد من خبرات سابقة شجع عليها الخبراء الأمنيون فى المركز.. فى دول مختلفة.. مثل الاتحاد السوفيتى وصربيا والهند وإيران واليابان وفنزويلا.. ويقع الكتاب فى نحو 240 صفحة.. غير الملاحق.. ومزود أيضا بالرسومات والصور الشارحة.
الكتاب الثانى : منهاج التخطيط : ويتضمن تحديد الهدف.. وطبيعة التظاهرة.. ومسارها.. وشعاراتها.. وكيفية الدعوة إليها.. والأخطر.. ملاحظات مهمة يجب الانتباه إليها.. مثل : رصد غير مباشر لبعض ممارسات الأمن.. وتحديد المبانى الحكومية التى يمكن محاصراتها واحتلالها.. والتأكيد على تكرار التظاهرات بشكل دورى.. بجانب الإرشادات التى يوجه بها المنظمون المشاركين.. خط السير.. استخدام وسائل الإعلام المناسبة.. البحث عن ضحية لضمان زيادة أعداد المتظاهرين.. يضاف إلى ذلك التنبيه على ضرورة تقسيم التظاهرة إلى مجموعات متنوعة المسئولية.. مجموعة الردع.. مجموعة الفرق الخلفية.. مجموعة الإسعاف.. مجموعة السقاية.. مجموعة التحفيز المعنوى.. المجموعة الإعلامية.. مجموعة الأحاديث التليفزيونية.. ومجموعة تصوير العنف بعد استفزاز الأمن.
الكتاب الثالث : منهاج الدروع الواقية من الخوف.. والهدف منها كسر حاجز الخوف لدى المتظاهرين.. بجانب إضفاء الشرعية فى الوقت المناسب لاستخدام العنف.. بدعوى الدفاع عن النفس.. وتصاعد ذلك تدريجيا حتى الوصول إلى مرحلة الحرق.. والقتل.. والتخريب.. تمهيدا لنشر الفوضى.
لقد استغلت الظروف الاقتصادية ورغبات المصريين فى تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية فى إعلان الثورة على مبارك.. لكن.. الثورة على النظام تحولت بفعل سوء مقصد البعض إلى حرب على الدولة.. والفارق كبير بينهما.. فالنظام زائل والدولة باقية.
وقسم شباب من مصر تدرب فى صربيا بلاده إلى ثلاث مناطق : مدن رئيسية.. مدن صغيرة.. وقرى.. وجمع بينها فى شبكة اتصالات عبر الإنترنت تسهل التحرك.. وتضم تلك الشبكة مجموعة من الشباب المثقف القادر على استغلال الشعارات فى الترويج لما يريد.. ومجموعة من البلطجية مهمتها الحرق والنهب ونشر الفوضى.. ومجموعة من الطوائف الدينية (مسلمين ومسيحيين) يجرى استغلال الأحداث الطائفية لشحنها ضد النظام والدولة.. ومجموعة من الإعلاميين تساهم فى تحريك الرأى العام فى القنوات المعادية لثورة يونيه.
أكثر من ذلك تهدف أجهزة المخابرات الغربية والإسرائيلية من وراء مركز «كانفاس» إلى زرع عملاء يجمعون المعلومات عن الدول المستهدفة.. ويستغل فى ذلك الطلاب السابق استخدامهم منذ عام 2007 بسبب صغر سنهم وقلة خبرتهم وسوء حالتهم المادية.. ويتكرر ذلك فى مصر الآن.. فقد أقنعهم «كانفاس» بأن عدوهم الحالى فى مصر مؤسسات الدولة العميقة التى ساندت ثورة يونيه.. ويصفونهم بالقوميين الذين يؤمنون بأن مصر دولة لها جيش يحميها ومؤسسات عريقة تحافظ على كيانها وقوميتها وعروبتها وانتمائها الإسلامى.. والتوصيف يثير قلق المتربصين بمصر.. ويصرون على الإجهاز عليه.
وبسبب ثورة 30يونيه قرر «كانفاس» مراجعة برامجه التدريبية لكى تصبح متوافقة مع المتغيرات الأخيرة فى المعادلة السياسية.. دخول الشعب المصرى طرفاً مباشراً فى اللعبة.. لم يعد من السهل التغرير به.. ولم يعد من الممكن إقناعه بثورية كل من يعطل الحياة.. ويوقف التغيير.. ويعرقل خطوات المستقبل.. ويصر على أن نكون أمة من الغربال.. به من الثقوب أكثر ما به من التجانس والتلاحم.
ويخفف ما يدبر لنا.. إن الذين يلعبون بالنار معروفون للرأى العام.. ومكشوفون لديه.. ولو كرروا ما فعلوا من قبل فلن يرحمهم أحد.. بل ربما هى فرصتهم الأخيرة أن يعودوا إلى صوابهم ووطنيتهم ويزيلوا عن أنفسهم ما سبق أن لحق بهم من عار.. فى الدين والوطن.. التائب من الذنب كمن لا ذنب له.