لا يمكن تجاهل فيلم «النصف المخفي» للإيرانية تهمينه ميلانى التى قدمته عام (2002)، بعد مشاهدة الفيلم الوثائقى الإيرانى الجديد «ثورتى المسروقة» لناهيد بيرسون سارفستاكى. صحيح أن الفيلم الأول روائى طويل ولكنه كان يحمل فى مضمونه روح الفيلم الوثائقى بلغة سينمائية واضحة، إلا أن مضمونه الدرامى يشبه، إلى حد كبير، النواة الدرامية الرئيسية ل«ثورتى المسروقة». معاناة فتايات إيرانيات عقب الانقلاب، فى نهاية السبعينيات، ضد شاه إيران محمد رضا بهلوى ونظامه الحاكم. قدّم الفيلم الروائى، المستند إلى حكاية مخطوطة وضعتها البطلة التى عاشت تجربة نضالية إنسانية مرة أمام زوجها قبل «غيابها»، صورة عن العامين اللاحقين لنجاح الثورة الإسلامية بقيادة الخمينى فى تثبيت «حكم الملالي» الذى بدأ فى 1979، ورصد العمل المطاردات العنيفة ضد الشيوعيين، الحلفاء السابقين لرجال الدين ومناصرى آية الله الخمينى فى انقلابهم على حكم الشاه. هذا كلّه بطريقة سينمائية روائية تجمع اللحظات المتباعدة زمنياً فى سياق درامى وجمالى هادئ فى كشفه فظائع المجازر الدموية ضد مناضلين ومناضلات شيوعيين وليبراليين ومستقلّين رفضوا فاشية نظام الخمينى الجديد. أما الفيلم الوثائقى، فاستعاد تلك الفترة نفسها من خلال عيون خمس مناضلات سابقات تعرضن لأقسى درجات التعذيب الجسدى والمعنوى فى سجون الثورة الإسلامية، هن أنفسهن اللواتى واجهن بطش نظام الشاه أيضاً قبل الثورة، ونزلن إلى الشوارع للتنديد بسياسته القمعية، ووقفن صفّاً واحداً مع «ثوّار» الخمينى!. - نفس الحكاية التى تكررت بعد أكثر من ثلاثين عاماً فى الثورة المصرية والتونسية -!، لكن بصوتين سينمائيين مختلفين، أحدهما جعل الروائى لغة قول وفضح ومواجهة، وثانيهما اختار طريقاً أخرى، وإن هدفت إلى الصورة نفسها، عبر إتاحة الفرصة لمشاركات ميدانيات ب«الثورة المسروقة» للقول والفضح والمواجهة، بعد مرور نحو ثلاثين عاما على معاناتهن فى سجون الخمينى وأتباعه.
بعيداً عن المقارنة بين الفيلمين، يُمكن القول إن «ثورتى المسروقة» محاولة سينمائية إضافية لتأريخ لحظات مصيرية فى مسار مجتمع وبيئة وشعب وثقافة. فالمخرجة، التى أرادت تحقيق هذا الفيلم حتى لا ينسى البعض ما حدث ببلدها إيران ومازال يحدث، سعت أيضاً إلى مقابلة هؤلاء السيدات الخمس لتتخلص من شعور طاغ بالخجل والخوف والألم، لأنها لم تعش العذاب الذى عانته هؤلاء الفتيات وقتها، عندما كنّ فى أعمار تتراوح بين ال17 وال19 عاماً. أى أن أولئك الفتيات الجميلات، اللواتى واجهن التعذيب والسجن والموت فى بعض الأحيان بسبب قناعات ومعتقدات اعتبرنها جزءاً من وعى معرفى خاصّ بهنّ، أصبحن اليوم شاهدات حيات على تفاصيل وحكايات يفترض بها أن تكون مرجعية لمن يحاولون تزوير التاريخ، والدفاع عن ثورة إيران الإسلامية لفظاً والمنحرفة فعلاً وقولاً!
ينطلق «ثورتى المسروقة» من رغبة فى استعادة الحدث، كى يذهب إلى ما يشبه المصالحة العميقة مع الذات، أقله بالنسبة إلى من اعتبرن أنفسهن «مجاهدات» ليبراليات فى سبيل بلد هن بناته! ومن أجل مجتمع وُلدن فيه وتربّين على ثقافته وطقوسه المتنوعة، وحب بشعب ينتمين إليه. صحيح أن الماضى ثقيل، لشدة ما فيه من آلام تنبش فى الجسد والروح معاً حتى هذه اللحظة، وإن توصلت السيدات جميعهنّ إلى ما يُشبه التصالح الداخلى الصامت، الذى منح كل واحدة منهن شيئاً من صفاء وهناء وسكينة، لم تمنعهن حماية الذكريات من الاندثار. وصحيح أيضاً أن الهجرات المختلفة التى جعلت كل واحدة منهن تعيش فى بلد أوروبى مختلف، لم تكن عائقاً أمام قوة ذاكرتهن فى الاحتفاظ بلحظات الألم والمعاناة، وأمام جمال الحياة «الجديدة» التى جعلتهن يستعدن أفضل ما فيهنّ من دون تغييب لما عرفنه وعشنه. لكن المؤكد من هذا كله أن «ثورتى المسروقة» يعيد إلى واجهة اللحظة فصولاً من بطش سلطة دينية أرادت تشويه المعانى الإنسانية السامية فى الفعل النضالى لكل من خالفها الرأى والسلوك.
الممارسات العنيفة ضد هؤلاء السيدات زمن التثبيت الدموى لسلطة الملالى فى إيران بدءاً من نهاية السبعينيات، ظلّت راسخة فى وعيهن، لم ينسينها ولو للحظة واحدة وهو ما جعلهن يسردن وقائعها كأنها تحدث «الآن». حكايات عن مسلسل الإعدامات، وفنون التعذيب، والإرهاب المعنوى، الذى تم ممارسته على نساء وجدن أنفسهن فى أعماق التحول الجذرى لمجتمعهن. الدموع القليلة التى سالت أثناء سرد الحكايات شكلت لحظات إنسانية عميقة ومؤثرة، حكايات مليئة بالقهر والقسوة والعنف، لكنهن بقية صامدات ليروين حكايتهن لعلنا نتعلم ويتعلم غيرنا أن من يتحدثون عن الحكم بشرع الله، أبعد ما يكونون عن الله وأنهم جميعاً شياطين يتنكرون فى جملة شرع الله!
الأسبوع القادم.. جرأة آسر ياسين فى «فرش وغطا» تفضح غباءنا!