هى التى قالت: «النساء اللواتى يسعين إلى المساواة بالرجال يفتقدن للطموح». وهى أيضاً من قالت: «لا أستطيع أن أكون على مستوى توقعات الرجال» . هى المرأة الأشهر بعد حواء والسيدة العذراء. إذا كانت حواء هى البداية فمارلين مونرو هى خاتمة النساء. وإذا كانت حواء هى صاحبة الهمسة الأولى فى قصة الغواية التى بدأت منذ عدة آلاف سنة، مع صعود الرجال ومصادرة النساء باعتبارهن رمزا للشر والإغواء، فمارلين هى الفصل الأخير فى تلك الحكاية، وهى التفاحة الأخيرة والحية المقدسة الأخيرة وهمسة الغواية الأخيرة فى جنة عدن الأرضية التى احترقت بنار الإغراء! خمسون عاما مرت على مصرعها الغامض فى الخامس من أغسطس 1962، ولم تخب أسطورتها بعد، بل تكبر كل يوم. ومثل أبطال الأساطير تولد مارلين مونرو مجددا فى ذكرى وفاتها.. لا أعلم كيف، ولطالما تعجبت على مدار سنوات من قدرة ماكينة الإعلام على اكتشاف معلومات جديدة وقصص جديدة وصور جديدة تظهر لمارلين فى أغسطس من كل عام. مهرجان «كان»، عرس السينما السنوى، اختار إحدى صورها لتصبح ملصق وشعار دورته الخامسة والستين التى تعقد من 16 إلى 27 مايو القادم.. وفى بيان له حول هذا الاختيار ذكر المهرجان: «بعد خمسين عاما على وفاتها، فهى لا تزال واحدة من الأسماء الرئيسية فى السينما العالمية، رمز خالد وحى على الفتنة والغموض والاغواء. وكل ظهور لها على الشاشة لا يزال يثير الخيال. وملصق المهرجان اختار صورة لها التقطت دون إعداد فى لحظة حميمية تلتقى فيها الأسطورة بالواقع». الصورة لمارلين أثناء احتفالها بعيد ميلادها فى المقعد الخلفى لسيارة، تقوم بإطفاء شمعة فى كعكة، وهى، مثل معظم صور مارلين، محملة بالمعانى المزدوجة والوعود غير المتحققة. إنها تحتضن الكعكة بيديها وتميل عليها بجسدها كما لو كانت حبيبا، ونفخة الهواء التى ترسلها إليها أشبه بقبلة تتجاوز الكعكة إلى ما ورائها.. ومن المدهش أن الصورة غير مدبرة بل التقطت بواسطة أحد المصورين الصحفيين الذين كانوا يطاردونها فى كل مكان. أيقونة لكل العصور! حتى الذين لم يشاهدوا فيلما واحدا لمارلين مونرو يعرفونها عن طريق عشرات الصور الشهيرة التى ربما لا توجد مجلة ولا صحيفة فى العالم لم تنشر إحداها فى يوم ما. ولدت مارلين فى الأول من يونيه عام 1926 وبدأت رحلة صعودها مع بداية النصف الثانى من القرن العشرين، وتحديدا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية التى كانت خطا فاصلا فى تاريخ البشرية. فى ذلك الوقت، نهاية الأربعينيات، كانت حركة تحرر المرأة قد وصلت إلى نقطة اللاعودة، وكان «نظام النجوم» الذى أرسته هوليوود وقام على تحويل الممثلين والممثلات إلى نجوم أنصاف آلهة يشبهون فى تأثيرهم واهتمام الناس بهم ما كانت تفعله حكايات آلهة الأوليمب فى اليونان القديمة أو أساطير الفراعنة فى مصر القديمة؛ كائنات بين الواقع والخيال ترتسم من خلالها مثل الجمال والأخلاق والبطولة، وتتشكل من علاقاتها ملاحم الصراع والطباع وقصص الصعود والسقوط والحياة والموت. فى ذلك الوقت كانت السينما قد استقرت باعتبارها الفن الشعبى الأول، وازدهرت الصحافة الحديثة بطباعتها الفاخرة الملونة، خاصة فى المجلات الفنية والاجتماعية، وأصبحت الوسيط الإعلامى الأول للطبقات الوسطى. ومع بزوغ نجم مارلين مونرو ظهر التليفزيون أيضا، الذى دشن عصر الصورة المتحركة باعتبارها الوسيط الإعلامى الأول لكل الطبقات. ولدت أسطورة مارلين مونرو أيضا من ثقافة الثورة الجنسية التى انطلقت عقب الحرب العالمية فى أوروبا وأمريكا، قبل أن تتعرض للضربة المكارثية الرجعية فى أمريكا خلال الخمسينيات، حتى إن وفاتها الغامضة، مثل مصرع كيندى بعدها بعام، يعتبران فى كثير من الأوساط من الأعمال الانتقامية لهذه الرجعية السياسية والدينية. لا تنس أن مارلين هى صاحبة الصور والأفلام والأفعال الأكثر إثارة للغرائز، ولغضب الرقباء والرجعيين أيضا، وهى صاحبة مقولة: « لقد خلق الجسد لينظر إليه، وليس ليتغطى فى الملابس» وهى أيضا التى أعلنت دون خوف: «أحب أن أفعل الأشياء بالطريقة التى تستفز الرقباء». هى أيضا النجمة ذات الشعبية الطاغية التى اختارت أن تتزوج شيوعيا مغضوبا عليه هو الأديب أرثر ميللر، الذى تعرض لتحقيقات لجنة مكارثى ومنع من العمل لسنوات، وحذرت زوجته مارلين من تدمير مستقبلها الفنى لو دافعت عن ميللر علنا. هى أيضا النجمة التى تجرأت على الغناء المثير للرئيس الأمريكى، والدخول معه فى علاقة لا تزال مثار بحث وتأويل. وصلت مارلين إلى الساحة، إذن، فى عز الثورة الثقافية التى اجتاحت الغرب عقب الحرب الكبرى، وفى عز عصر الصورة الصحفية وبداية عصر الصورة التليفزيونية، وفى عز نظام النجوم، وبمعنى ما كتبت مارلين مونرو الفصل الأخير فى قصة هذا النظام. وأخيرا وصلت مارلين مونرو إلى الساحة فى عز صعود ما يعرف بنظام «الموضة» النسائية ثم الرجالية أيضا، من الملابس إلى تصفيفات الشعر إلى أنواع العطور والاكسسوارات المختلفة، ووصول هذه «الموضة» إلى قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى فى كل أنحاء العالم فى أول شكل من أشكال العولمة التى مهدت لها السينما والإعلام والإعلانات. صناعة الأنثى الخالدة لن أستطرد فى التأثير الذى تركته مارلين مونرو على معنى الأنوثة والجمال لدى ملايين النساء على مر السنوات. سأكتفى بمثل واحد فقط: فى مصر لا نزال نعتبر هند رستم، وهى مجرد مستنسخ ردىء من مارلين مونرو، رمزا للإنوثة والاغراء إلى الآن. على أية حال تأثير مارلين مونرو على صناعة الجمال والأنوثة لم يقتصر على مصر ولا على الخمسينيات والستينيات، لكنه جزء من حضورها الطاغى الممتد إلى الآن. وأحدث خط تجميل أعلن عنه فى بداية 2012 من إنتاج إحدى الشركات العالمية الشهيرة يحمل اسم «مارلين» ويضم ثلاثين نوعا مختلفا من أدوات التجميل. وبرغم أنها كانت رمزا للجمال الطبيعى والتلقائية إلا أن مارلين مونرو هى أيضا نموذج الجمال المصنوع. شعرها الأشقر الشهير لم يكن سوى صبغة للونه البنى الغامق، وهى من أوائل الذين قاموا بعمليات تجميل فى بداية حياتها الفنية بناء على توجيه الاستديو الذى تعاقد معها. والأهم من هذا كان دور الماكيير آلان سنايدر فى حياتها، حيث لم تكن تظهر للعلن قبل أن تخضع لبضع ساعات تحت يديه الماهرتين من تصفيف الشعر إلى تجميل الوجه وإظهار ملامحه الجميلة وإخفاء عيوبه، حتى يقال إن كل ملليمتر فى وجهها كان يتم معالجته وتجميله. الجبهة العريضة والحواجب المقوسة والعيون «المسبلة» والأنف المرسومة والخدود العالية والشفاه الكبيرة الممتلئة. وبعد ذلك يأتى دور الملابس المصممة خصيصا لإبراز مفاتنها ثم الإضاءة وزوايا التصوير، وبعدها تبدأ مارلين فى الحركة بجسدها الفصيح المعبر وصوتها الهامس الرقيق، ويكون السحر قد اكتمل على الشاشة وانطلق بشعاعاته نحو الجمهور المأخوذ المبهور. إلهة الحب...محرومة منه! رحلت مارلين مونرو منذ نصف قرن ولو عاشت لكان عمرها الآن 86 عاما، فهى ماتت شابة لا تتجاوز السادسة والثلاثين، ولم يزد عمرها الفنى عن عشر سنوات بالرغم من أن حياتها قد تبدو طويلة جدا بالنسبة لجمهورها. وخلال هذه الحياة القصيرة حققت معجزات من النجاح بفضل أنوثتها وإصرارها الذى لا يلين، ولعل هذا النجاح هو ما دفعها يوما للقول: «النساء اللواتى يسعين للمساواة بالرجل يفتقدن للطموح». هكذا قدر لمارلين مونرو أن تصبح أشهر وأجمل نساء العالم وأكثرهن جاذبية، لكن قدر أيضا لها أن تحترق مبكرا مثل كل الأساطير.. من المعروف أن مارلين عانت من طفولة بائسة وفقيرة تعرضت فيها لنكران الأب الذى حملت اسمه ومرض الأم الذى أنزلها سنوات طويلة بمصحات الأمراض العقلية، والانتقال الدائم بين بيوت المعارف والأقارب، حيث تعرضت للانتهاك المعنوى والجنسى منذ طفولتها وحتى بعد احترافها للتمثيل. عانت مارلين أيضا من حياة عاطفية مضطربة وزيجات فاشلة متتالية، وفوق ذلك كله عانت من فقدان تام للثقة بالنفس وخوف مرضى مزمن من الأضواء حتى إنها كانت تحبس نفسها بالساعات قبل بداية أى تصوير خوفا من الخروج ولعب دورها أمام الكاميرا. من المعروف أنها عانت أيضا من المرض فى سنواتها الأخيرة، بجانب إدمانها للمسكنات بأنواعها، فكانت تحتاج أقراصا لتنام وأقراصا لتستيقظ وأقراصا لتعمل وأقراصا لتأكل. فى الفيلم الأخير الذى صنع عن حياتها «أسبوع مع مارلين» تظهر جوانب أخرى من شخصية مارلين تختلف عن صورة إلهة الحب التى لا يشق لها غبار فى معارك الهوى أو صورة النجمة والممثلة الشهيرة صاحبة الكلمة العليا فى أعمالها. النجاح المتواصل لمارلين كان يقابله رغبة مضادة فى تدمير الذات والشعور بالذنب. فى أحد حواراتها الأخيرة تقول: «الناس ينظرون إليّ كما لو كنت مرآة وليس انسانا. إنهم لا يروننى، لكن يرون أفكارهم الوضيعة، ثم يحاولون إخفاء أفكارهم بأن يصفوننى أنا بالوضيعة».. فى حوار آخر تقول: «أشعر بغربة شديدة كما لو كنت شخصيتين مختلفتين. الأولى هى نورما جين القادمة من بيت الأيتام التى لا تنتمى لأحد. والثانية تحمل اسما لا أعرفه، لكنى أعلم أنها تنتمى للمحيطات والسماء والعالم كله»، حتى صورتها كمارلين مونرو نجمة الإغراء تسعى نورما جين إلى هدمها: «أنا فاشلة كامرأة. الرجال يتوقعون منى الكثير بسبب الصورة التى صنعتها كنجمة إغراء. الرجال يتوقعون منى الكثير ولكننى لا أستطيع أن أكون على مستوى توقعاتهم». مع هذا، بل تحديدا من أجل هذا، الضعف والنقصان وعدم الاكتمال استطاعت أسطورة مارلين مونرو أن تبقى وتستمر حتى يومنا هذا لأنها تحمل صورة الإله الإنسان، المرأة الخالدة والمرأة العابرة، البطل الخارق غير المعصوم من الضعف، والشخصية المتعددة الوجوه المنقسمة على نفسها، وكلها سمات تعبرعن وتخاطب إنسان العصر الحالم الذى يدمن تحطيم الأوهام. السنة الخامسة - العدد 345 - الاثنين - 12/ 03 /2012